صفحات الرأي

في التهجين/ ابراهيم محمود

 

ما إن تتردد مفردة “تهجين” لحظة سماعها، حتى يتبادر إلى الذهن وجود شيئين، عنصرين، يقبلان الدخول في علاقة، ليتشكل عنصر ثالث يلغيهما، ليتكون هو: في عالم الكائن الحي، بالنسبة للأجسام المعدنية، المعادلات الكيمائية، حتى في الحساب، إذ “الجمع” مثلاً لا يعدو أن يكون حصيلة ضم عددين، وظهور ثالث يهضمهما… إلخ: التهجين لسان التعدد.

ولكن ماذا يحصَل لو ووجّه أحدنا من آخر بقول: أنت مهجَّن؟ ألا يستفزه قوله، أم أنه سيبقى هادئاً، أم تراه سيبتسم؟ لقد استخدمت مفردة “مهجَّن”، وليس “هجيناً” المبعدة عن البحث!

من المؤكد أن الجواب هنا، بالذات، يتوقف على خاصية السؤال، أي أننا إزاء علاقة محكومة بمستوى معين من التفاهم الذي يحدّد بدوره سقف التعامل، وحدود تعاطي الكلام المشترك. قد يُستشَف من قوله الإساءة والإهانة “ثمة شك في جنسه”، وما أكثر الحالات التي نصادفها أو نسمع بها على هذه الشاكلة. قد يراد من قوله جانب اختباري، ليبقى الجواب أو التعليق متوقفاً على كيفية تلقي قول الآخر. قد يبتسم، ابتسامة سخرية منه بالذات، كما لو أنه يرد عليه دون أن ينبس ببنت شفة، أو ينتظر قليلاً بعد الابتسامة تلك ويرد عليه.

ما يمكن قوله هو أن لدينا الكثير الذي ينتظر التسمية بصدد المفردة تلك، ويا لها من مفردة تجمع إليها الأرض والسماء، وكل القوى المرئية واللامرئية: أجساماً حيّة، ومركَّبة، وعناصر فاعلة في الطبيعة، وما يستحق القول هو أن كل ما قيل ويقال، ما إن يعلَن عن اختتامه، تكون لدينا “دورة” حياة جديدة قد بدأت، ليعاد النظر في المستجد تهجينياً.

ما يجب قوله بإطلاق: كلُّنا مهجَّنون، ومن ليس مهجناً، أو يزعم أنه معفى من الانتساب إليه، ليس عارفاً بالحد الأدنى مما يكونه، أو يتفاعل معه، ومن يضع حدوداً للتهجين، كمن يغلق على نفسه، كمن يشطب على كل من ينتمي إلى الحياة والكون، ويقول: ما هو خارجي ليس شيئاً.

ويرتكز المشكل الرئيس، والذي يقرّبنا من الحقيقة، إلى ما هو نسْبي: بين الصفة والموصوف، المضاف والمضاف إليه، الفاعل والمفعول، العامل والمعمول… إلخ، التهجين بنية علاقات لا تتوقف عن التفاعل فيما بين مكوناتها، وكل ما يصلنا به يسمّى التهجين.

لغتنا، عاداتنا، أعرافنا، متحولاتنا، قيمنا، أخطاؤنا، أوهامنا، بطولاتنا، انكساراتنا، معالمنا، أحلامنا، أصواتنا، مكوناتنا اللحمية والعظمية، والدماء التي تجري في عروقنا، لغاتنا، إبداعاتنا، صورنا، علومنا، فنوننا، اكتشافاتنا، معارفنا المختلفة، أمراضنا، حيواتنا، أغذيتنا، شرابنا.. إلخ.

لا شيء بمستثنى من التهجين: اسماً كان، وما لم يكتسب اسماً بمفرده، مهما كانت بساطة تركيبه أو موقعه بجوار مجموعة الأشياء أو العناصر أو الأجسام في محيطه أو لحظة الربط بينهما.

ثم: أوليس هذا التنقل بين الزمن، لا بل وإن مجرد حديثنا عما نحن عليه، حتى سرعان ما يكون المسمَّى ماضياً، ونحن ننسّب أنفسنا إلى الحاضر، وهناك ما يشدنا إلى المستقبل، أوليس تأكيداً على أننا لا نستطيع التنفس إلا في مناخ تنفسي ؟

وبين أن ننتفس كما هو القانون الطبيعي، وفق مقتضى الحيوي: العضوي فينا، نكون قد ألزمنا أنفسنا بمسايرة الموجَّه حيوياً فينا، سوى أننا، وطالما ننتفس في وسط اجتماعي، يأخذ تنفسنا طابعاً من اللاعضوية أو اللاحيوية عند التذكير بما هو سائد اجتماعياً، وما هو مكتسَب ثقافياً.

لا أحد منا يتنفس إلا تبعاً لنظام يتجاوب معه: اجتماعي في الأصل، فنتنفس بعمق، أو سريعاً، أو نحبس أنفاسنا عند اللزوم لأمر ما، أو نرفع وتيرتها لأمر يعنينا، عبر زمان ومكان محدَّدين.

كما لو أن ما نعرَف به يكون وديعة علينا الحفاظ عليها، حتى يمكننا التصرف بالطريقة التي تبقي من هم حولنا في رضى عنا. إنه جسدنا الذي نعيش داخله، به، معه، بقدر ما نسعى إلى تأكيد حضورنا من خلاله ونحن نضفي عليه تغييراً في المظهر والجوهر لتأكيد اختلاف ما لنا.

ثم ما هذا الشيء الذي نسمّيه، هذا الشيء الذي نحيله إلينا باسم معين، باعتباره حقيقته، وهو محض اتفاق، أو اصطلاح، هذا الشيء الذي يخرج عن سيطرتنا النفسية والعقلية، الحسّية، ومن المادية كونه أكثر مما هو مجذَّر فيه بتقديرنا، أعمق مما هو مقدَّر به باعتقادنا، أوسع مما هو محاط به في حساباتنا. شيئنا الذي أردناه لنا، فأحطناه بما لدينا من إمكانات، ثم صادقنا عليه، لأنه أمسى داخلاً في نطاق معرفتنا التي تعادل تملكنا للأشياء، ثمة استأنسنا به، بما أنه أصبح في تمام الوضوح لنا، ثم أرشفنا له، كما لو أنه هو ما عزمنا على وضعه والتعريف به؟

ما هذا الشيء، ونحن إن تحررنا قليلاً من السؤال الذي يرتسم حدودياً تبعاً لرغبتنا، متجاوبين مع سؤال الشيء بالذات، حيث نحن أنفسنا لا نعدو أن نكون شيئاً في “عُرْف” الطبيعة، وأن ما يقال وما لا يقال، وما هو متبرزخ بين الاثنين، إنما هو في واقعه واقع الشيء الذي عهدناه كما عرفناه وليس ما هو عليه، وفي الوقت الذي نحال عليه، فنحن الجزء منه ولسنا قيمين عليه؟

شيئُنا، شيء الآخر: العالم، أي موجود منه، فيه، وجوده (دازاينه، هيدجرياً)، ما يخرج عن الصفة والموصوف، الفاعل والمفعول به وفيه، ما يؤممه من التأطير والتقعيد، الكائن بكامله، الجماد في مجموعه، شيء، أكثر من مقولة “الشيء في ذاته كانطياً”، أكثر من كل اجتهاد ميشيل فوكو في مكاشفته، وأفلح في إضاءة الكثير منه في “الكلمات والأشياء”، إنه شيئنا وليس شيئنا، لأن ثمة خروجاً عن التملك، ثمة ما يتحرك، ويمارس حياته الخاصة، حتى في تسيير سلطته فينا وعلينا، دون طلب الإذن منا، بما أننا نولد وليس لنا خيار في ذلك، وتكوّننا عناصر وليس لنا رأي في ذلك، ونمضي من طور عمري إلى آخر، وليس من قوة، ولا بأي شيء بفالحة في الحيلولة دون سريان فعل هذا المضي، دون إمضاء القانون المتحكم بنا وبكل شيء فينا، أو وفْق إدراك تقديري منا بأن لا بد من نهاية، حيث الموت الذي لا نعرف أهو يسبق الحياة أم يتربص بكل كائن فيه، أم يظهر في المنعطفات الخاصة، أو يكون صنيع الحياة، أم بالعكس، ولا مناص من قبول حكمه المبرم.

ربما – إذاً – كان التهجين موصولاً بالهجنة، بـ”هجَّن”، فهي نهج عالي التركيب، معمَّق معنى!

كل ذلك يحصل ويمضي فينا وبنا وعلينا ومعنا، ولكل حالة إحالة، ونزعم أن لدينا ما يسعفنا في التفكير والتدبير الفعليين، وملؤنا الإرادة التي تتدخل في المصير الذي أرعب كائناً متفلسفاً إلى درجة الرمي به في دوامة التشاؤم لعجزه عن إبقاء جسده، ولو ثانية، بعيداً عن مؤثرات الزمان، أي شوبنهور، يقيننا الذي نتوهم أو نتصور أن ثمة ما ينبثق داخلنا، فنتراجع أو نتقدم أو نغيّر مساراً لنا، وفينا اعتقاد قائم يهبنا راحة أو شعوراً بالخيلاء بأننا خلاف أي كان آخر، وننطلق هنا وهناك نمارس ما نعتبره إبداعات أو مواهب أو فنوناً وعلوماً تعزيزاً لقوة نافذة الأثر في بيئتنا رغم أن الجاري هو النقيض الفعلي لكل ما نراه ونعتقده ونتفكره.

من معبر واحد، في اتجاه واحد، في تعيين واحد نعتبره نظام الشيء، نحدد للعالم معنى وسقفاً، وهو من حيث المبدأ لا يخلو في أقل الأقل منه من تعقيد وعمق ورحابة، عبر التركيب الذي لا ينقطع عن كل ما عرفناه حتى الآن وما جهلناه ونجهله حتى اللحظة، ولا بد أن أي ممعن نظر في العالم وموجوداته أن يأخذ علماً بما توقعه من قراءة العنوان بأن القائم فينا هو “التهجين”!

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى