حسام موصلليصفحات المستقبل

في الحرب أيضاً يصحّ غير الصحيح/ حسام موصللي

في الحرب أيضاً يصحّ غير الصحيح: كأن تتجاوز سرعتكَ رصاصةَ قنّاصٍ ماكر، أو أن تتفادى شظايا الهاون دونما أن تفقد ظلّك. ذات يوم في أحد الأحياء المشتعلة شتاءً بريف دمشق، قررتُ أن أُخضِع تلك النظرية للتطبيق: زحفتُ على أرض المقبرة لأحيا تجربة القيامة. تفصل بيني وبين القنّاص عشرات الأمتار من الهواء المدمّى، وبقايا حائط ينتظر أن يستند أحدٌ ما إليه فيستحيل لحافاً. لو أني أطول بقليل لابتلعتُ ما طار من غبارٍ قذفت به الرصاصة بعيداً عن سقف الحائط. لم يكن بجانبي ما أضحّي به سوى الكاميرا. فهي الأقدر على منح الفولاذ ميزتَي الشمّ والتتبّع! مددتُ رأسي لأسجّل المشهد في مخيلتي التي كادت الرصاصة أن تصيبها، وحسبتُ الزوايا بخبرة طالب البكالوريا الذي تنقصه علامة في الرياضيات لينجو من حزام والده. مددتُ الكاميرا، فابتلعت العدسةُ متراس القنّاص، خوذته، سلاحه، لكنني سحبتُها قبل أن تبتلع ما في المخزن. أطلق القنّاص مرّةً ثانية، فانفجر الهواء بما يحمل من دم، لكن أحداً منّا لم ينزف، سوى ذلك الحائط الذي ازدادت عيونه عيناً. لو كان معي مقياسٌ للأدرينالين، لأظهر النتيجة بوحدة ريختر! هل النصر أن تعانق جثّةً أرداها القنّاص نفسه، وتهمس في أذنيها: هذا انتقامك. خيّبتُ رصاصة قاتلك، فسقطت ميّتة وكفّنها الصدأ؟

* * *

وفي الحرب أيضاً يصحّ غير الصحيح. قبل أن أتأمّل علب السمن التي تمتد على طول الطريق الرئيسي والموصولة بسلكٍ لا يكاد يُرى، لم أكن أعلم أن خطّ الاستواء ما هو إلا جدارٌ صخري تتخلله فوهات بركانية، ويقطع البحر المتوسط، فيفصل العالم الأول عن الأخير! سألتُ أحدهم عن تلك العلب فقال إن ما فيها كفيل تفجير رتل كامل من دبّابات العدو. لم يخطر في بالي سوى أن أقول له: “صدق مَن قال: الإكثار من السمن، يُضرّ بالصحة!”.

* * *

وفي الحرب أيضاً يصحّ غير الصحيح: كأن تملأ فراغ الوقت بمبارزة الموت. ثلاثة رجالٍ قد نصبوا حاجزاً في الفراغ. لم يزرهم أحدٌ مذ وضع القنّاص ذلك الشارع برسم الموت المؤكّد. لم يبق للثلاثة سوى بعض الشاي الذي لم يعد كافياً للحديث عن مآثر مَن رحل من أصدقاء. في المقابل، كان القنّاص يمضي وقته في اصطياد النقاط على لوحات الإعلانات، وذلك بعدما فرغ من الكلاب العرجاء، والأجنّة في بطون القطط، وحواف مصابيح الإنارة المكسورة. يوحّد المللُ أربعتهم، فيتفقون باللاشعور على قتله. أعدّ القنّاص لكلّ واحدٍ من هؤلاء الثلاثة رصاصتين. واللعبة على الشكل الآتي: يركض الأول نحو الضفّة المقابلة من الشارع ويطلق عليه القنّاص، فإنْ لم يُصِبه الأخير عاود الركض مرّةً أخرى إلى حيث كان ليلتقط ما بقي من أنفاسه، ويردّد وأصدقاءه بضع تكبيراتٍ احتفالاً بالنصر، ثم ينطلق المتسابق الثاني، وهكذا. مع الوقت أدرك الثلاثة أن القنّاص أيضاً يشاركهم متعة اللعبة، ولذلك لن يقتلهم لئلا يقع فريسةً للضجر من جديد. هنا بدأ المتسابقون بالتشقلب أثناء اجتيازهم الشارع، والركض بخطوط متعرّجة. حتّى أنّ أحدهم أراد أن يجرّب الشقلبة في الهواء خلال القفز، لكنّه لم يستطع أن يتحكّم في هبوطه فسقط على الأرض والتوَت قدمه. ذهل رفيقاه اللذان تجمّدا في انتظار الحكم على اللاعب الخاسر. فما كان من القنّاص إلا أن أطلق رصاصةً على الأرض بالقرب من رأس الرجل، ثم توقف الرصاص إلى أن نهض وعبر الشارع. هنا علت أصوات الثلاثة بهتافات النصر، وارتسمت على وجه القنّاص ابتسامة مَن أنقذ شريكه من “ختيار كُبّة” محقّق في لعبة “تريكس”.

* * *

وفي الحرب أيضاً يصحّ غير الصحيح: كأن يطلب منك الجلاّد أن تغنّي للحياة ليعفو عنك. كما كلّ لغات العالم، عدا العربية منها والإيطالية، لم تُغرِني الكردية يَوماً. ولم تكن تزعجني تلك الضحكات التي يطلقها الأصدقاء على الطاولة بعد أن يتهامسوا بما لا أعرفه. قلائل هم مَن ينتبهون إلى أنّ الأطرش في الزفّة، وحده ينجو من حصار الضجيج. على الرغم من ذلك، لم يكن ليخطر في مخيلتي يوماً، أن إطلاق سراحي سيكون مشروطاً بالغناء بالكردية. ما زلت أذكر كيف صاح بي ذلك الجندي: “غنِّ مقطعاً واحداً، وفُزْ بعمر جديد!”. قلت: “لو أنيّ أعلم خاتمتي لكنتُ حفظْت”، وعلى الفور باشر الغناء، ولكنني لم أستطع أن أحفظ منه سوى بضع كلمات، لم تكن كفيلة بالنجاة.

* * *

لو صحّ الصحيح في الحرب، لما كانت الحرب.

* * *

عندما يصبح من الصعب أن يبادركَ أحد المارّة على شاطئ الاسكندرية بأيّ ابتسامة عفوية من تلك المرفقة عادةً بعبارة: “أنت من سوريا؟ أجدع ناس”، يصير عليكَ أن تفكّر جديّاً في وجهتك المقبلة. سوف تذرف بضع دمعات لا إرادية عند مدخل المطار وأنتَ تفارق شعباً وأرضاً يمتلكان من الحبّ ما هو كافٍ لإقناعكَ بأنّك في وطنك. ثم تستحضر السبب الذي ساقكَ إلى أرض الكنانة في الأساس، متسائلاً كيف أنك لم تعطِ أيّ اهتمام لما جاء في الحاشية في أسفل اللافتة على الحدود السوريّة: “إلى كلّ من هبّ قائلاً “الموت ولا المذلّة”: ربّما سينجيكَ هذا الطريق من الموت، أما تجنّب المذّلة، فتلكَ خدمةٌ تحدّدها الشروط والقوانين الخاصة بوجهَتك!”.

مع ذلك، يجد السوري في مصر كل ما اعتاده في وطنه الأصلي: شعبٌ طيّب ومضياف، معيشةٌ منخفضة التكلفة المادية، مقارنةً بباقي دول اللجوء، وبالطبع ثورةٌ لا يبدو أنّها ستشبع من التهام أبنائها، وبناتها، والإخوة وأولادهم.

* * *

على اختلاف وجهاتهم، يبقى المارّة في الطريق مارّةً في الطريق. لذا من الطبيعي أن يستوقفكَ أيّ زميل في الدرب المشترك ليسألك عن أمر ما. أما الآن، ففي الغالب سيعتبركَ المارّ المصري شيئاً قد سقط في غير مكانه. وإذا ما استوقفك أحدهم ليسألك عن الساعة مثلاً، فلا يصدمنّكَ أنّه قد تابع طريقه دونما أن تكمل الإجابة. أعذره فإن الذنب ليس ذنبه، وإنّما هي الحرب تقتات على الوقت، وأكثر ما تفضّله لحظة المودّة.

* * *

أطلّ من النافذة لأتفرّج على المدرّعات وهي تسدّ مسام الإسفلت، وأقول لأحد الأصدقاء: “الازدحام في الطريق أكثر من يوم العيد”. يجيب: “لا تلق باللوم على العسكر، فليس لمنازل الصفيح نوافذ. دع المصريين في الشوارع ليشاهدوا حظر التجول بسلام”. لم أمضِ في أرض الكنانة سوى بضعة أشهر. لكنني بعدما تأملت وجه أحدهم ممن أمضوا فيها سنوات وهو يقف مشدوهاً في منتصف “سوق اللاجيتيه” في الإسكندرية ليمعن النظر في وجوه المارّة باحثاً عن الوطن الثاني الذي فقده، أدركتُ أن الثقل الذي تخلّفه خسارة وطنين في حياة واحدة لم يعد حكراً على الفلسطينيين والسوريين في لبنان!

* * *

“إذا ما أردتَ أن تشرعن حرباً فأنتَ بحاجة إلى شمّاعة خارجيّة”: هَذا هو الدرس الذي يمكن أن نتعلّمه من الإعلام المصري المسيّس؛ وسواءً أكان مصدر الكلمة “مسيّساً” من ساس أم سيسي، فإن تغيّراً لن ينالَ من النتيجة، وهي أنّ السوري قد غدا في مصر غريباً مثل جبلٍ جليديّ على خطّ الاستواء.

يقول كاتب سوري يعيش في الاسكندرية منذ سبع سنوات: “تكمن الأزمة في مدى تعلّق الإخوة المصريين غير الطبيعي بوسائل الإعلام. جرِّب أن تدخل إلى مقهى خلال نشرة الأخبار، فستجد الجميع ينظر نحو الشاشة فاغراً فمه، ولن تسمع أيّ صوت سوى قرقعة النرجيلة. المشكلة أن الخطاب ذاته يسيطر على كل القنوات. “أنا هنا منذ سبع سنوات، تابع الكاتب السوري، وأعرف التسامح الذي يغمر قلوب المصريين، لكنني كذلك لا أزال أذكر أن أول ما يفعله المصري في السعودية عندما يتلقى أول راتب، هو أن يشتري جهاز تلفزيون وراديو كاسيت وفيديو وعلبة كاسيت.

توجّه أحد السوريين منذ أيام إلى دائرة الهجرة والجوازات من أجل أن يستفسر عن شروط الإقامة الجديدة. يقول الرجل: “عندما دخلت إلى المكتب وجدت موظفاً كنت قد راجعته منذ قرابة الشهر، وكان أن استقبلني وقتها بكثير من اللطف. أما هذه المرة فلم يكلف نفسه عناء النظر في وجهي. كل ما فعله أن رفع يده ثم أشار بالسبابة والإبهام وقال: عمل أو دراسة، أغلق الباب خلفك!”.

سوري آخر من حمص هذه المرّة، غادر سوريا بعدما أغلقت في وجهه كل الأبواب التي لا تشترط على من يدخلها أن يحمل سلاحاً. ذهب إلى مصر، ومنها إلى لييبا، ثم عاد إلى مصر مرة أخرى. كان الرجل قد اقتنع بأنه لم يعد يمكنه أن يغادر مصر في الوقت الراهن، ولكنه لم يكن ليقتنع بأن الأوضاع في مصر ستضطره لأن يقضي الوقت حبيس غرفته خشية الترحيل قبل أن يحدث ما يحدث الآن.

كلّ من أعرفهم من سوريين في مصر، وخصوصاً الذين كانوا قد استقروا فيها منذ سنوات، استطاع الشعور بالغربة أن ينال منهم. لعلّ هؤلاء تحديداً هم أكثر السوريين الذين يغادرون مصر الآن، وجميعهم يتفق بأن السبب في ذلك هو إبقاء صورة مصر في أذهانهم كأمّ للدنيا لا كزوجة أب ظالمة.

يقول ميلان كونديرا: “إذا كان كوكبنا قد شهد عبور ثمانين ملياراً من البشر، فإن من غير المحتمل أن كلاً منهم كان له فهرس حركاته الخاص. حسابياً، هذا أمر لا يعقل. لا يوجد أدنى شك في أن الحركات في العالم أقل بما لا يقاس من الأفراد. يقودنا هذا إلى نتيجة مزعجة: الحركة أشد فردية من الفرد. ولكي نقول ذلك على شكل مَثَل: ثمة أناس كثيرون، وحركات قليلة”.

حسناً… يبدو أن شيئاً على هذا الكوكب لم يواكب عصر السرعة سوى عجلة التاريخ التي دارت إلى حيث تقف عادةً.

 كاتب سوري

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى