صفحات الرأيعبدالله أمين الحلاق

في الحنين إلى فتاوى قديمة ورديئة/ عبدالله أمين الحلاق

 

 

تمتلئ صفحات الويب ومواقع التواصل الاجتماعي بسيلٍ من الفتاوى الدينية لمشايخ مسلمين، من مختلف بلدان العالم العربي والإسلامي، يتناولون فيها أدق التفاصيل التي لا تغيب عن بالهم، وبما يدعو للاستغراب، بدءاً من أصغر تفاصيل الحياة الشخصية للإنسان وصولاً إلى ما يتعلق بمسائل الخلق والكون وغير ذلك.

تقابَل ظاهرة التمدد والتكاثر لخلايا وكائنات الإفتاء تلك، بردودٍ ساخرة عليها، عبر تحويل أولئك المشايخ إلى مادة للطُرفة، وعن وجه حق، كما هي فتاواهم، مثل صفحة «الشيخ أبو الإيمان» وصفحة «تخاريف الشيوخ» وغيرهما من صفحات تتناول ظاهرة الفتاوى على مواقع التواصل الاجتماعي. فإذا ما أضيفت إلى تلك الفتاوى بعض التحويرات الطفيفة، بات واضحاً للجميع حجم الخواء الذي تسبح فيه بعض مرجعيات الدين الإسلامي، وهذا في مقابل تغييب مقصود لأصوات ثقافية حقيقية تمنع من الحديث على تلك الفضائيات.

لكن الرد على حمّى الفتاوى تلك يأتي أيضاً من قبل مشايخ ورجال دين، وفي شكل جِدّي غير هزلي، أي من قبل أشخاص يقفون ويلقون بتلك الفتاوى المثيرة للسخرية على نفس الأرضية الإيمانية، ويتكلمون وإياهم من نفس دائرة الإيمان.

وهنا، لا بد أن يلحظ المتابع أن الرد على تلك الفتاوى يأتي فقط بقول رافضيها من المشايخ بعدم وجود مَسند أو نص يثبت جوازها أو صحتها، من دون الطعن في مشروعيتها ومشروعية قائليها ومشروعية نظام الإفتاء الحالي في عالمنا اليوم.

وبعد صعود «تنظيم الدولة الإسلامية» (داعش)، استطاع هذا الاخير أن يؤسس منظومة الإفتاء الخاصة به، تزامناً مع بناء دولته على رُقع واسعة من أراضي العراق وسورية، وهي منظومة تبدو أمامها فتوى «إرضاع الكبير» وفتوى «تحريم الانترنت على النساء من دون محرم» مزحةً سمجة، لسببين:

أولهما، أن فتاوى داعش تبدو مستغربة ومستهجنة أكثر من الفتاوى السابقة لناحية مضمونها وعلاقتها بمكبوت المجاهدين الآتين من كل حدب وصوب، إلى أرض خصب لا يرون إليها إلا رقعة جغرافية لسلوكيات يرونها مستمدة من الدين.

وثانيهما، أن الفتاوى التي شهدها عالمنا العربي بقيت في إطار الأخذ والرد والسجال بين مشايخ لديهم الوقت الكثير لمناقشة فتوى «إعدام ميكي ماوس»، من دون أن يلتقطها ويقف عندها من الملايين المسلمة إلا القليل، على ما يظهر من غياب ردود أفعال شعبية واضحة تلتف حولها.

إلا أن الأمر يختلف جذرياً مع تلويح «داعش» بالسوط وبالساطور والرجم ضد كل من يخالف قوانينه السماوية – الوضعية، وفتاواه التي لم يتساهل في تطبيقها، بدءاً من مدينة الرقة السورية وصولاً إلى الموصل في العراق.

فقد أصدر «داعش»، مثلاً، فرماناً بعدم جواز جلوس النساء على الكرسي «لأن الجن يجلسون عليه»، كما أصدر بياناً باسم مكتب مسؤوله الشرعي العام يقول بـ «وجوب الزكاة في الزيتون»، حيث على «كل سوري يقيم في إمارة داعش في بلاد الشام أن يؤدّي الزكاة في زيتونه». وحدد «داعش» نصاب الزكاة بـ «خمسة أوسق»، وهو ما يعادل 611 كيلوغراماً من الزيتون.

وفي مسائل النساء وشؤونهن أيضاً، قال داعش بوجوب ختان كل البنات والنساء اللواتي لم يتعرضن للختن، وغيرها من فتاوى لعل أكثرها دعوةً للإجرام وشرعنةً له هي الفتوى التي أصدرها أحد الدعاة المروجين للتنظيم، والقائلة بـ «وجوب قتل النساء الشيعية والمسيحية حتى إن كنّ حوامل»، أما «النساء السنيات المتزوجات فعليهم أن يمارسوا جهاد النكاح 5 ساعات يومياً مع المجاهدين في داعش».

فتاوى ما قبل «داعش»، لا تختلف كثيراً عن فتاوى «داعش» إلا لناحية غياب إمكانية تطبيقها بحد السيف، وهو ما يفعله «داعش» راهناً. وفي العمق، ثمة فتاوى كثيرة كانت تتجاور مع فتاوى جواز صيام «الممثلات الإباحيات» و «تحريم القراءة والكتابة إلا بما ينفع ويخدم دين الله» وغيرها، وهي فتاوى اتخذت في بعض الأحيان شكل «خطاب أكاديمي» مضاد لكل اجتهاد، أطاح بالدكتور نصر حامد أبو زيد وحالات أخرى مشابهة له. وهنا، لا بد من المرور مثلاً بفتوى مفتي الجمهورية في سورية، الشيخ أحمد حسون، والقائلة بأن «كل امرأة سورية تقدم إثباتًا أن زوجها مفقود، وتختم ورقتها لدى وزارة الأوقاف، لها الحق بالزواج عوضاً عن انتظار سنوات لمعرفة مصيره». والجدير بالذكر أن المفتي المذكور صاحب الفتوى الشهيرة التي توجب الجهاد دفاعاً عن نظام بشار الأسد.

على أي حال، لا يمكن أن يلتقي جزء كبير من المنظومة الفقهية المعترضة على دائرة الفتاوى الهزلية السابقة، مع أي منطق وعقل، بخاصة أن جزءاً كبيراً منها يصدر عن مرجعيات إفتاء دينية ممهورة بخاتم المباركة من السلطات السياسية «العلمانية»، على ما يحدث في سورية مثلاً. لكن، ثمة فتوى لا يمكن للمرء إلا أن يقف عندها رمزياً، وهي فتوى ابن باز التي قالت بتكفير كل من يقول بدوران الأرض وثبات الشمس. ولا ينبغي التقليل من هذه الفتوى اليوم ومن فوائدها الجمة، ذاك أن ثبات الأرض، في حال أقررنا بصدق الفتوى، يعني توقفاً للزمن، واستجابة من الكون والطبيعة لها، بعدم تعاقب الساعات والليل والنهار. وهذا يعني في مكان ما: داعشاً أقل، ونظاماً سورياً يقف عداد القتل الزمني له على مئات الآلاف الذين قتلهم دونما زيادة، كما يعني حداً ما لمسلسل القتل والجلد والصلب والجهاد، وللفتاوى الخمينية القائلة بوجوب قتال «حزب الله» في سورية «دفاعاً عن العتبات والمراقد المقدسة»، وما شابه من وقائع ميدانية لا تزال تجد شرعيتها في سِير ووصايا السلف والأوّلين قبل أي عقل واجتهادٍ ومنطقٍ قُضي عليه قبل قرون، مذ لوحق المعتزلة وأُحرقت كتب ابن رشد.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى