صفحات الرأي

“في الدولة الوطنية الحديثة” لجاد الكريم الجباعي: سوريا نموذجاً

تلك الديموقراطية التي لا يؤسس لها دين ولا شريعة
جوزف باسيل
يقارب جاد الكريم الجباعي في كتابه “في الدولة الوطنية الحديثة” المفاهيم بمنحى أكاديمي، وبتوجه ليبيرالي علماني، هو نقيض الاجواء المسيطرة في سوريا حاليا، ما يوحي أنه من المعارضة السلمية التي ترى الى الامور من وجهة نظر منفتحة واصلاحية، تخالف وجهة نظر المعارضة السنّية المسلحة التي تريد اطاحة النظام والحلول محله. فهل ممارساتها ستكون مختلفة عنه؟
قارئ الكتاب اذا ما طبّق مفاهيمه الاكاديمية اللازمة لنظام الحكم الديموقراطي في الدولة الحديثة، على نظريات المعارضة ذات الطابع السني، وذات الغلبة في احتمال تسلم الحكم، كما جرى في دول “الثورات العربية” الاخرى، لما وجدها منطبقة، بل هي مغايرة تماما، تمكّن المرء ان يتفهم مدى القلق لدى قسم كبير من المجتمع السوري في ظل تجارب ثورات الدول العربية الاخرى.
وإذ يلفت الى “الاجماع” على الدولة لدى السلطة والمعارضة، يشترط أن تولد الدولة الوطنية الحديثة من رحم السلم لا الحرب. وهذه ليست الحالة السورية. وعلى هذه الدولة أن تخوض معركتها ضد الاحتكار والفساد والارهاب، وهي الوجوه الثلاثة للاستبدادين الديني والسياسي اللذين يتبادلان الدعم والمساندة.
فمن أجل بناء دولة وطنية حديثة، تكون دولة حق وقانون لجميع مواطنيها بالتساوي، ومن أجل نظام ديموقراطي، ينبغي تفنيد الوعي التقليدي الماضوي والوعي الايديولوجي والتحرر والانعتاق من ربقة العلاقات الاتنية والعشائرية والدينية والمذهبية، “وانجاز قطيعة معرفية وفكرية وسياسية واخلاقية، ليس مع الاستبداد فحسب، بل مع كل الشروط التي تساعد على اعادة انتاجه”.
الكتاب ذو الطابع الاكاديمي الفكري، بحث في الدولة الوطنية الحديثة محددا مواصفاتها، ومنها: أن تكون دولة الحق والقانون كمقدمة لازمة للدولة الديموقراطية الحديثة التي لا بد لإرسائها من فصل الدين والعقيدة السياسية والايديولوجية عن الدولة، فضلا عن وجوب أن تبنى على أسس الحرية والمساواة والعدالة والمشاركة.
يميّز بين الدولة والأمة، في أن الدولة هي الأمة المنظمة لجماعة من الناس. ويفترض التنظيم وجود قوانين عامة تنطبق على كل الناس من دون تفريق لأي سبب. ويناقش فكرة الدولة المدنية، ما المقصود بها؟ وهل تختلف عن الدولة العلمانية؟ وهل اختلاف التسمية يعني اختلاف المعنى؟
قرأت لأحد قادة المعارضة اليمنية قوله: “نطالب بدولة مدنية أسسها الاسلام”، فكيف تكون مدنية اذاً؟ صارت إسلامية. وكيف يوفق الاسلاميون بين شعار “الدولة المدنية” الذي ينظرون به بعد ثورات لمدّعي “الربيع العربي” وبين شعار “الاسلام هو الحل”، والمطالبة بـ”تطبيق الشريعة”، والاصرار على ان يكون “الفقه الاسلامي مصدرا للتشريع”، أو دين الدولة او رئيسها هو الاسلام، وهي في مجملها تنفي مبدأ المواطنة ومفهوم المواطن. ان طرحهم “الدولة المدنية” يتناقض مع حقيقة مفاهيمهم ويخالف ما ينسبونه الى شريعتهم.
يحيلنا الجباعي على “وثيقة الأزهر” الصادرة في 11 آب 2007 وتمثل رأي المسلمين الشرعي والرسمي، وتدعو الى “تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديموقراطية الحديثة”، وهي أكثر تقدماً وحداثة وواقعية من دعوات الاسلاميين الذين يمثلون الموقف البرلماني التشريعي في مصر، فيكون الموقف الشرعي أكثر تطوراً وتقدماً من الموقف التشريعي، عجباً!
صفة المدنية لا تصلح صفة للدولة السياسية، كما ان مفهوم المواطنة الحديثة يتنافى ومعاني الهوية والأمة والشعب والسيادة والشرعية عند الاسلاميين والقوميين أيضاً.
يستبعد الجباعي ان تكون اي شريعة دينية مناسبة لتنظيم المجتمع والارتقاء به الى الحال المدنية، ويضرب مثلاً، الحال السورية، “فان نص الدستور السوري ان الفقه الاسلامي مصدر رئيس للتشريع اقتضى استثناء المسيحيين والموسويين والدروز من قانون الاحوال الشخصية ومنح المؤسسات الدينية سلطة موازية لسلطة الدولة، فعزز الانقسامات العمودية والنزعات الدينية والمذهبية، وعوّق عملية الاندماج الوطني وسيادة القانون. فلا يمكن ان تقوم دولة وطنية ويخضع مواطنوها لقوانين مختلفة. ولا يمكن ان تكون الدولة وطنية وتستمد تشريعها من عقيدة دينية بعينها، لأن في ذلك نفياً قاطعاً لعمومية الدولة والقانون ومبادئ المواطنة ومبادئ الوطنية ذاتها، وخفضاً للمواطنين الى رعايا لا حقوق لهم. فجميع الشرائع الدينية لا تعترف بحقوق الانسان والمواطن، بل تعترف بحقوق الحاكم الذي هو ظل الله، على الارض”. أليس هذا وضع لبنان؟
يضيف في معرض نقده لأطروحات ملتبسة تخالف المفاهيم الصحيحة والمواطنية الحقة، وتدحض المقولات التي يبغي الاسلاميون امرارها بالدعوة الى الدولة المدنية تمييزاً بين المواطنين، لذلك يحسم مفهوم المواطنية بالقول: “ان نص الدستور السوري ان “دين رئيس الجمهورية الاسلام” ينزع صفة المواطنة عن غير المسلمين، وهم نسبة غير قليلة من السكان. والنص ان يكون رئيس الجمهورية عربياً ينزع صفة المواطنة عن غير العرب وهم نسبة غير قليلة من السكان أيضاً. التعلل بالأكثرية والأقلية العدديتين في هذا الموضوع باطل ولا قيمة له، وفق ما توجبه مبادئ المواطنة، ولا سيما مبدأ المساواة السياسية التي تضمن حق كل مواطنة او مواطن في المشاركة في حياة الدولة” ومؤسساتها وادارتها ووزاراتها.
ينقض فكرة خطرة يدلي بها الاسلاميون، وهي قولهم “الاسلام دين الفطرة”، و”ما ذلك إلاّ لتسويغ الاحكام المسبقة بتكفير الآخر المختلف، الآخر الذي لا يرون فيه سوى الاختلاف والضدية، ولتسويغ عصمة الافراد والافكار والمبادئ التي ليس لها من سند سوى الالهام او الوحي”.
سعياً الى الدولة الحديثة في سوريا يقول الجباعي بوجوب “ايقاظ الوطنية السورية من سباتها واستعادة الجمهورية دولة وطنية لجميع مواطنيها بالتساوي وفضيلتها الاساسية هي المواطنة أي المساواة والحرية والعدالة”. فـ”عدم قيام الدولة على أي شرط مسبق غير سياسي مقدمة ضرورية لحل “مسألة الاقليات” الاتنية المزمنة”. أما الديموقراطية، فليست صندوقة اقتراع فحسب، بل يجب ان يتطابق فيها الشكل والمضمون، اي الدولة والشعب، انطلاقاً من مفهوم المواطن وفكرة المواطنة، لأن الشعب هو “جمع من المواطنات الحرائر والمواطنين الاحرار يعيشون على أرض مشتركة، هي وطنهم ويتمتعون بهوية دولتهم السياسية وما تقرره لهم من حقوق مدنية وسياسية وحرية شخصية وعامة بموجب الدستور والقانون”. وهما مصدر سيادة الدولة وشرعيتها ومصدر جميع السلطات، وهو أخيراً المضمون الديموقراطي للدولة.
تقتضي الديموقراطية تعيين الحدود بين الاعراف والشرائع الدينية الخاصة وبين القانون الوضعي العام. الشرائع الدينية هي شرائع خاصة، ولا يمكن ان تكون شرائع عامة او موضع اجماع او مصدراً للتشريع، حتى لو كانت أكثرية اعضاء البرلمان من اتجاه ديني او مذهبي بعينه، لأن اعضاء البرلمان لا يشرّعون لجماعة دينية او طبقة اجتماعية، بل للشعب كله.
واذا لم تكن الدولة بهذه الصفات فإنها حتماً لن تكون وطنية او حديثة، واذا بنيت على الدين فانها ستكون مشروع فتنة.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى