صفحات الرأيوائل السواح

في الذكرى المئوية لثورته: إشكاليات لينين الثلاث القاتلة/ وائل السواح

 

 

 

ثمة ألف زاوية يمكن النظر من خلالها إلى الوراء لتأمل ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا لمناسبة الذكرى المئوية الأولى لها. سيركز هذا المقال على واحدة منها: ثلاث إشكاليات ابتدعها لينين وساهمت في إفشال أول ثورة في التاريخ قامت على أساس أفكار كارل ماركس.

الإشكالية الأولى هي مفهوم الإمبريالية. في 1916، كان لينين قد طوَّر نظرية هيلفردينغ وبوخارين حول رأس المال المالي الذي يصل مداه بتحويل الدولة إلى احتكارات يتم تقسيم العالم في ما بينها، ونشر فكرته في كتاب «الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية». لا اعتراض لي على مضمون الكتاب، ولكن اعتراضي على البناء الخاطئ عليه. فكرة لينين الأساسية هي أن الإمبريالية هي النمو المنفلت للكولونيالية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين. وقد استند أســـاساً على أن الاحتكارات أخذت تؤدي دوراً حاسماً في الحياة الاقتصادية والسياسية وأن الاندماج بين رأس المال المصرفي ورأس المال الصناعي ولّد «رأس المال المالي» وأن الإمبريالية ستعمل على تأسيس اتحادات عالمية للرأسماليين الاحتكاريين تتقاسم العالم كمستعمرات ومناطق نفوذ.

المشكلة الرئيسية التي وقع فيها لينين وأوقعنا معه هي نقضه نظرية ماركس في أن الاشتراكية سوف تُبنى في أكثر البلاد تقدماً وتصنيعاً، ذلك أن الثورة هي نتاج التناقض بين قوى الإنتاج المتقدمة وعلاقات الإنتاج المتخلفة. في البلدان الأكثر تقدماً سوف تصل قوى الإنتاج (الطبقة العاملة المنظمة) إلى حدّ القطيعة مع علاقات الإنتاج (الرأسمالية) فتحدث الثورة الاشتراكية التي تكون مقدمة لثورة كونية تنقل العالم إلى الاشتراكية باعتبارها نمطاً أرقى وأكثر إنسانية للإنتاج.

بيد أن الرأسمالية بدّلت جلدها وأصبحت تصدر منتجاتها وسلعها الفائضة إلى دول أخرى لحل أزماتها في تكدس السلع، وقدمت أهم اختراعاتها، الديموقراطية والصحافة والبرلمان، التي حققت للعمّال مكانة سياسية ووضعتهم على الخارطة السياسية، واضطرت الرأسمالية إلى تقديم تنازلات كبيرة كانت سبباً في تأخير (وربما انتفاء) الثورة في العالم المتقدم. ما الحلّ؟ وجد لينين الحل في إيقاف الماركسية على رأسها. فبدلاً من قيام الثورة في أكثر الدول المتقدمة صناعياً، ابتكر لينين ضرب الإمبريالية في أضعف حلقاتها، تلك التي تصدر الرأسمالية إليها سلعها وأزماتها، فتغلق مصانعها وتسرِّح عمّالها لأنها أضحت أسواقاً للبورجوازية الإمبريالية، ويفقد العمال مصدر رزقهم، فلا يجدون في تلك البلدان سوى الثورة الاشتراكية كحل لأزماتهم، وههنا تسقط الرأسمالية.

عندما اندلعت ثورة شباط(فبراير) 2017 التي فجرتها نساء روسيا وشارك في قيادتها بورجوازيون واشتراكيون وفوضويون، وكانت تأسيساً لمرحلة جديدة في التاريخ الروسي، كان لينين في منفاه في سويسرا. ومن منفاه بدأ يرسل رسائله إلى رفاقه البلاشفة يحضهم فيها على رفض المشاركة في الحكومة الانتقالية، ثم سرعان ما استقل قطاراً بألمانيا ليعود إلى روسيا، وهو يضع «موضوعات نيسان» الشهيرة التي تراجع فيها عن أفكاره في طبيعة الثورة الديموقراطية (0519) والانتقال إلى دفع حزبه للانقضاض على السلطة وبناء الاشتراكية فيها.

كان لينين يأمل بأن تندلع الثورات الاشتراكية في أوروبا فتسارع الطبقة العاملة لنصرة البلاشفة في بناء الاشتراكية. إلا أن الحرب الكونية انتهت وراحت الرأسمالية تلملم جراحاً وتعيد بناء نفسها ومؤسساتها، وتطور أحزاباً وصحافة وبرلمانات وضماناً صحياً واجتماعياً وفنّاً وثقافة. وتُرِك لينين وحزبه وحيدين، ما دفع الرجل إلى تبني فكرة الاشتراكية في بلد واحد، التي يُنسَب شرُّها أكثر إلى ستالين، والتي دفعت بروسيا إلى المجاعة والعوز والمرض، وأخيراً، ستالين.

ولكن ليس ذلك فحسب، ففكرة الاشتراكية في البلدان الأقل تقدماً دفعت فيما بعد بثورات كارتونية في مجموعة من البلدان الفقيرة، ككوريا الشمالية وكوبا واليمن وإثيوبيا، أدت جميعها، ومن دون استثناء، إلى كوارث في السياسة والاقتصاد والمجتمع، ودمرت البنية الإنسانية في تلك المجتمعات وأصّلت لأشكال مرعبة من الحكم الديكتاتوري والتطرف والإرهاب.

الإشكالية الثانية هي الدور المركزي للحزب العصبوي المتماسك تماسكاً حديدياً في الثورة. منذ صدور كتاب لينين «ما العمل؟» عام 1902 الذي تحول إلى إنجيل للشيوعيين في العالم، أخذت نظرية لينين عن الحزب الثوري تتكامل. وقد بدأ لينين بفكرة أن الطبقة العاملة لا يمكنها أن تطوِّر سوى «وعي نقابي،» أما الوعي السياسي، الوعي الاشتراكي-الديموقراطي، فيأتيها «من الخارج»، من الحزب. أكثر من ذلك: إن «حركة الطبقة العاملة العفوية تتلخص في النقابوية. والنقابوية تعني استعباد البورجوازية أيديولوجياً للعمال. لذا، فإن مهمتنا تكمن في تحويل العمال عن الكفاح العفوي النقابوي».

ولا ينبغي أن يعتمد الحزب على الكم، على الحجم، بل على «دزينة من الواعين الثوريين المحترفين» الذين يبنون علاقات جيدة مع العمال ويقودون – معهم – الثورة. ففي ظل الدولة الأوتوقراطية، «كلما كان الأعضاء مرتبطين بالنشاط الثوري بشكل محترف ومدرَّبين باحترافية على فن مراوغة البوليس السياسي، كان من الصعب الإجهاز على المنظمة». لذلك، ينبغي أن يكون تماسك الحزب حديدياً ويخضع لجدلية المركزية- الديموقراطية.

ولكن من يقرر التوازن بين المركزية والديموقراطية؟ ومن يقرر متى تخرق ضوابط الحزب؟ في 1903، أرسى لينين اثنتي عشرة قاعدة للحزب الثوري، سرعان ما خرقها بنفسه، فشكّل تكتّل «المكتب الجنوبي» خارقاً القاعدة التي وضعها هو وتقول إن تشكيل لجان ومنظمات الحزب هو من صلاحيات اللجنة المركزية فقط. ومن خلال هذه المنظمة، كان لينين يدعو إلى عقد مؤتمر حزبي جديد، في خرق مباشر للقواعد التنظيمية التي أرساها بنفسه للحزب. وفي 1909 عزل رفيقه وتلميذه بوخارين من اللجنة المركزية خلافاً للقانون الحزبي، بسبب مواقفه اليسارية.

استبدال الحزب بالطبقة أدى، كما يحب تروتكسي أن يكرر، إلى استبدال اللجنة المركزية بالحزب، ومن ثم استبدال الأمين العام باللجنة المركزية. وقد برزت النتائج الكارثية لنظرية الحزب سريعاً، وحتى قبل وفاة لينين، عندما وصل إلى أمانة الحزب رجل نصف أمي، غليظ القلب، يقتل بدم بارد أصدقاءه قبل أعدائه. خلال سنوات، قتل ستالين 98 عضواً في اللجنة المركزية من أصل 139، بينهم رفاق دربه كامينيف وزينوفييف وبوخارين وتروتسكي، وأعدم 81 جنرالاً من أصل 103، وأرسل 3 ملايين روسي إلى أرخبيل الغولاك للعمل القسري، قُتل منهم 750 ألف. وحين جاء خلفاء «أبي الشعوب»، نقلوا القتل من روسيا إلى بودابست وبراغ وبرلين.

الإشكالية الثالثة هي دور الفلاحين. لقد تبنى لينين فكرة ديكتاتورية العمال والفلاحين في الثورتين الديموقراطية والاشتراكية، معارضاً بذلك تروتسكي وبوخارين وراديك. الأول كان ينادي بديكتاتورية البروليتاريا المدعومة من الفلاحين، بينما كان اليساريان بوخارين وراديك يرفضان دور الفلاحين في الثورة. وبغض النظر عن صوابية فكرة ديكتاتورية البروليتاريا من عدمها، فإن التعويل على دور أساسي للفلاحين في الثورة الاشتراكية دفع بالماركسيين في دول أكثر تخلفاً كالصين وفيتنام وكمبوديا ولاوس إلى اجترار الفكرة والقيام بثورات كاريكاتورية دموية، ساهمت في تدهور الفكر الماركسي، ولكنها لم تتوقف عند ذلك بل ساهمت في تدهور أوضاع الحريات الرئيسية وحقوق الإنسان في بلدانها والعالم.

ويكفي أن نتذكر فقط الزعيم الشيوعي الكمبودي بول بوت الذي أعدم 1.5 مليون كمبودي من أصل ستة ملايين خلال أربع سنوات، بحجة “تثقيف الشعب” وتحويل البلاد إلى مجتمع اشتراكي مثالي، عبر تهجير السكان من المدن إلى الأرياف للعمل في المزارع الجماعية وإغلاق المدارس والجامعات وإعدام كل من سرت حوله شائعة بمعارضة الشيوعية، مع عائلته وأقربائه.

ولعبت تلك النظرة دوراً في الترويج لاشتراكيات دونكيخوتية – تحولت إلى تراجيديا إغريقية – في دول أخرى كمصر الناصرية وسورية البعثية والسودان النميرية، التي جاءت بعسكر ركبوا على ظهور الفلاحين والعمال والمثقفين لبناء أنظمة شبه اشتراكية سرعان ما انهارت نحو أقبح الرأسماليات الطفيلية في التاريخ، ولكنها تمتعت، ولا تزال، بتأييد يساريي العالم من كل حدب وصوب.

ثلاث إشكاليات كان يمكن أن تمرّ من دون كبير أثر لو أن البورجـــوازية الروســية كانت أقوى بقــليل، أو لو أن الاشتراكيين الثوريين والمناشفة كــانوا أكثر حذراً، أو لو أن القيصر الألماني لم يسمح بمرور القــطار الذي أقل لينين ورفاقه عبر ألمانيا إلى روسيا في نيسان 1917. ولكن لو تفتح عمل الشيطان.

* كاتب سوري.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى