صفحات الرأي

في “الذمية” الشيعية

 

حسام عيتاني

مقابل تصاعد التوتر السني – الشيعي، تطرح قوى الإسلام السياسي (السُني) مقاربات يرى فيها أصحابها مخارج من مأزق العلاقات الطائفية الراهنة، لكن نظرة ثانية إليها تكشف الطريق المسدود الذي تفضي اليه.

واتخذت العلاقات السنية الشيعية في العالم العربي منحى صدامياً منذ الغزو الاميركي للعراق والملابسات التي رافقت تعديل موازين القوى الداخلية في ذلك البلد لمصلحة الطائفة الشيعية التي استفادت قياداتها السياسية من التحالف مع إيران ومن انعدام الرؤية الاميركية لمستقبل البلاد. كان المضمون الطائفي للحكم البعثي قد جعل من الشيعة المستهدف الأول في كل حملات القمع والاقصاء. التبدل الهائل في المناخ العراقي والعربي الذي أدى إليه احتلال العراق، اتاح للطائفة الشيعية التقدم نحو مفاصل السلطة بغطاء إيراني وموافقة أمريكية تأسست على “الديموغرافيا السياسية” التي تقول بتسليم الحكم الى الجماعة الأكبر عدداً. وجاء تفجير مقام الامامين العسكريين في سامراء عام 2006 ليفتح أبواب جهنم أمام ما بلغ حدود الحرب الأهلية المفتوحة بين السنة والشيعة.

انتقلت هذه المناخات الى البلدان المجاورة التي تضم شيعة بين سكانها. واعقب حرب تموز (يوليو) 2006 التي اعلنها “حزب الله” “نصرا الهياً” له ولجمهوره، ارتفاع حاد في درجة الاستقطاب السياسي- المذهبي في لبنان، وصل الى الانفجار في أيار (مايو) 2008.

لم يجد الإسلام السياسي السني ذخيرة كافية في مخزن أفكاره للتصدي لظاهرة التقدم الشيعي المدعوم إيرانيا في المنطقة. التيارات الأكثر تشدداً استعادت الفتاوى القديمة بالتكفير والإخراج من الملة، قاطعة بها كل صلة بالجانب الشيعي. التيارات هذه كانت وفية في خطابها لواقع الانغلاق والعزلة شبه الشاملة عن كل انواع وصنوف التعدد والتفاعل مع الآخر. وشكلت هذه الفئات المصدر الذي رفد بتكفيره الشيعة، أعمال القتل والتفجير الانتحارية ضد التجمعات الشيعية، في العراق خصوصاً.

التيار العريض في الإسلام السياسي الذي سعى في بداية الثورة الإيرانية الى الاستفادة من الوزن الذي تتمتع به إيران سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، في عدد من المعارك العربية وفي مقدمتها الصراع العربي – الاسرائيلي، اكتشف ان شعار “الوحدة الاسلامية” الذي رفعته الثورة ينطوي على تفصيل صغير: الوحدة لكن بشرط تقييد الزعامة للقيادة الايرانية. ظلت صلات هذا التيار، وممثله بتنظيم “الإخوان المسلمون” في حال مد وجزر مع إيران إلى يومنا هذا، من دون أن يهتم كثيراً بالعلاقات السنية – الشيعية، تاركاً هذه المسائل تبعاً لكل بلد على حدة. مثال على ذلك، تدهور العلاقات بين “الحزب الاسلامي” العراقي الذي يعتبر من ذات خلفية “الإخوان”، بالحكومة التي يقودها نوري المالكي وحلفاؤه.

وفي الاعوام القليلة الماضية، ظهرت دعوات إلى حوار سني –شيعي، لمنع نشوب الفتنة في البلدان التي تضم بين سكانها ابناء الطائفتين. جدول أعمال هذا الحوار ليست واضحة تمام الوضوح، ذلك أن القضايا الفقهية موضع الخلاف بين المذاهب الإسلامية معروفة جيداً وتعرضت للبحث والتمحيص عشرات المرات. لكن حواراً كهذا يبقى مفيداً من وجهة النظر السياسية لقدرته على امتصاص التوتر والاحتقان.

من جهة ثانية، ظهر ميل بين محدثين باسم أهل السنّة الى التركيز على مواقف وتصريحات بعض رجال الدين المعتدلين من الشيعة وخصوصا الذين يدينون التدخل الإيراني في شؤون طائفتهم وما ينطوي عليه ذلك من خطر على مصالح الشيعة العرب على المدى الطويل. لكن ثمة التباس في هذا التركيز، فرجال الدين هؤلاء الذين أيد اكثرهم الثورات العربية والثورة السورية على وجه التحديد، في تحد صريح لتوجهات الزعامة الدينية والسياسية للشيعة، لا يصدر خطابهم عن “ذمية” شيعية” تجاه السنة. بل الأقرب الى الصواب انهم حريصون على مذهبهم وعلى رؤيتهم الدينية حرصاً بالغاً، وأن مواقفهم أعمق وأبعد نظراً ممن يحاول استغلالها في صراعه ضد السياسة التي تمليها المصالح الايرانية.

المشكلة الثانية في هذه المقاربة “التصالحية” أنها تنبع كذلك من رؤية إلى المجتمعات العربية باعتبارها مؤلفة من مكونات جوهرية “ماهوية” ثابتة الميول والتطلعات وغير قابلة للتغيير بمرور الزمن وتبدل صروفه. وفي عالم بات التعدد والتنوع هو القاعدة، والصفاء العرقي والديني هو الاستثناء، تبدو محاولات التصالح المذهبي والعرقي في النهاية كتحضير للجولة المقبلة من الصراع حول الهوية والذات والآخر.

غني عن البيان ان البقاء أسرى هذه الدائرة المغلقة من الصراعات والانقسامات يعني المزيد من الابتعاد عن تشكل مجتمعاتنا على قيم المواطنة والإنسانية والعدالة والمساواة، الكفيلة – على ما نعتقد – بإبعاد أخطار وكؤوس الحروب الأهلية الطائفية المريرة عن أجيالنا المقبلة.

http://www.24.ae/Article.aspx?ArticleId=9366&SectionId=33

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى