ابرهيم الزيديصفحات مميزة

في الرقّة لم يعد أحد يسأل عن اسم القاتل/ ابرهيم الزيدي

لست مراسلاً حربياً، ولا أحبّ أن أكون، إلاّ أن الرقة قد فتحت عليّ اليوم منافذ الشوق؛ كما فتحت نوافذ الخوف، حين غادرتها. لا أريد أن أعود إليها لأكتب شعراً، لم يعد في وجهها دهشة القصيدة. أريد فقط أن أراها، أتنسم هواءها، وأشرب من مائها، وأعود.

كنت أبحث عمن يشجّعني، يدفعني، يرافقني، إلى أن التقيت بيوسف، ذلك اللقاء الذي رتّبته لنا المصادفة، في محطة للعابرين! يوسف هذا، هو يوسف عبد الله قطيرة، مسيحي، من حمص. يحمل الجنسية الألمانية، عاش طفولته في منطقة تل أبيض، وهي منطقة تابعة لمحافظة الرقة، في الشمال الشرقي من سوريا، تقع على الحدود التركية مباشرة، كان والده موظفاً في مديرية الجمارك هناك. لدى يوسف كاميرا canon/5d، لعدستها سرعة الرصاصة؛ أي أن في إمكانه أن يلتقط صورة الرصاصة، وهي في طريقها إلى الهدف! ويريد المشاركة في مسابقة “world press photo”. هذا الشاب الجميل، الذي هو في مقتبل العمر، يأتي من ألمانيا، ويغامر في الذهاب إلى الرقة، من أجل صورة! وأنا ابن بطنها، تأكلني هواجس الخوف! تأبطتُ الأمل في عينيه، وحملتُ حقيبتي، وتوكلتُ على الله.

في الطريق سألت يوسف، هل الصورة تستحق هذه المغامرة؟ فأجابني أن القضية ليست قضية صورة. إن الذي يحدث في سوريا الآن، يدفع بالمغامر إلى أقصى رغبات المعرفة، وقد سبقني الكثير من أصدقائي الألمان إلى سوريا، وسيشترك الكثير من المصورين في هذه المسابقة، وأعتقد أن صور ما حصل ويحصل في سوريا ستكون هي الأكثر حضوراً بين المشاركات؛ وقد خجلتُ من نفسي أن لا تكون لي مساهمة، وأنا الذي أعلن سوريتي دائماً.

لماذا الرقة بالتحديد، هل لأنها على نهر الفرات؟ أقصد هل لك ذكريات مع النهر مثلاً؟

– لا أبداً. لأنها على حافة القلب. قالها ووضع كفّه اليمنى مفتوحة على الجانب الأيسر من صدره. ذكرياتي ليست مع الماء، يا صديقي. ذكرياتي مع الناس. المكان يكتسب معناه وقيمته من ناسه. هل تعلم أنني في طفولتي، كنت كباقي أصدقائي أصوم بعضاً من أيام رمضان، وأكثر من مرة ذهبتُ معهم إلى صلاة التراويح في الجامع؟! أربكني كلامه، واستوقف دمعتي على مشارف لهفتي بلقائه.

كثيرة هي الحواجز التي توقفت حافلتنا عندها، بعضها يكتفي بالتدقيق في بطاقاتنا الشخصية، والبعض منها يفتش أمتعتنا، وثمة من يدلس لهم السائق ما لا أعرف قدره من النقود، ونمشي. كلما اقتربنا من مدينة تدمر أصبحت أصوات المدافع، ومضادات الطيران، والرصاص على اختلاف أنوعه، أكثر وضوحاً. دبّ الهلع في نفوس الركاب جميعا، وشخصت عيونهم. البعض منهم ألصق وجهه بزجاج النوافذ، والبعض الآخر حاول أن يتبين الأمر من خلال الواجهة الزجاجية الأمامية للحافلة، إلا أن السائق لم يمكث طويلا على الطريق الرسمي المعتمد في السفر، فأخذ طريقا فرعياً، تجاوز طوله 50 كم، في اتجاه الجنوب، تحاشياً المرور بمنطقة السخنة حيث كانت الاشتباكات.

على مشارف الرقة، سألتُ يوسف، هل من أحد ينتظرك؟ فأجابني بالنفي. اتصلت بأحد اصدقائي، وأخبرته أننا سنحلّ عليه ضيوفاً الليلة. كانت أصوات المعارك تتقطع، وتبتعد حيناً، ثم لا تلبث أن تعود. تساءلت بيني وبين نفسي، من الذي يستطيع أن يحسم معركة مساحة جبهتها 185 ألف كم مربع؟!

في مدخل الرقة، واجهتنا لوحة معدنية متوسطة الحجم، كتب عليها “ولاية الرقة”. إذاً خرجنا من التقسيمات الإدارية الحديثة، ورجعنا إلى زمن الولايات! لم نصل إلى الرقة التي نعرفها، وصلنا إلى مدينة اسمها الرقة، غارقة في المجهول من الخوف، ترفرف فوقها أعلام سوداء، كُتِب عليها بالأبيض “لا إله إلا الله محمد رسول الله”.

وجدت صديقي ينتظرنا أمام البيت، بلحيته الجديدة عليّ، وبيده بندقية روسية. في ما بعد عرفت أنه أصبح أحد أمراء تنظيم “أحرار الشام”، وأن هذا التنظيم هو الأكثر عدداً في الرقة من بقية الفصائل المسلحة، وهو الذي وزع 10 آلاف ليرة سورية على موظفي الرقة حين توقفت رواتبهم. لم أشأ أن أسأله عن مصدر هذه الأموال، فنحن في بيته. بعدما استرحنا، وشربنا الشاي، استأذنّاه، وخرجنا، فودعنا قائلاً: ديروا بالكم على حالكم. هذه الكلمة، أخذناها أنا ويوسف على محمل الجد.

من يتبصر في وجوه الناس، يحس أنها منهمكة في تنظيم التعايش بين وضعها السابق، وحالها الآن. لا شيء يليق بهذا المشهد أكثر من أغنية مارسيل خليفة: “منتصب القامة أمشي، مرفوع الهامة أمش، في كفّي قبضة زيتون، وعلى كتفي نعشي، وأنا أمشي”. أن تسمع عن مدينة، شيء، وأن تعيش بين أهلها شيء آخر. ثمة غلاء في الأسعار، لا يتناسب بأي شكل من الأشكال مع دخل غالبية الناس، وثمة خوف مضاعف، خوف من كل شيء، بما في ذلك الخوف من الشتاء الذي باتت نذره على الأبواب. كانت الشوارع مليئة بالناس، العيون حذرة، كأنها تترقب شيئاً ما سيحدث، وكأن تجليات الخوف أكثر ما تظهر، تظهر في العيون. القلق كذلك.

طلب مني يوسف أن نذهب إلى الكاراج، لأنه يريد المغادرة إلى تل أبيض، فثمة أصدقاء طفولة له هناك. كانت أجرة الراكب من الرقة إلى تل أبيض بالتاكسي، لا تتجاوز 100 ليرة سورية، فتل أبيض تبعد 105 كم عن الرقة. الآن 4000 ليرة سورية. ولعدم وجود ركاب كفاية، فقد اضطر يوسف أن يدفع 6000 ليرة سورية، وغادر الرقة، صحبة راكبين آخرين. عدت أجرّ وحدتي في شوارع نسيت وقع أقدامي منذ زمن بعيد.

كانت القمامة تملأ الشوارع، والرائحة النتنة تزكم الأنوف، وصوت محركات الكهرباء التي احتلت الأرصفة يصمّ الآذان، والسيارات التي لا تحمل لوحة، إلا أن انتشار المسلحين والدمار الذي لحق بالمدينة هما ما يميز المشهد. فنتائج القصف تدل على عشوائيته، إذ لم تكن مركزة على منطقة بعينها. ولا يزال لدى بعض الشباب الرغبة بالقيام بالأعمال التطوعية. ثمة من تفرغ لغرس الأشجار في الشوارع، “جمعية إزرع”، وثمة من تطوّع لتنظيف المدينة من النفايات التي احتلت غالبية شوارعها، إضافة للمتطوعين في الجمعيات الخيرية، والاسعاف، والهلال الأحمر، وثمة من رأى حق الرقة في أن يكون لها إعلامها، فكانت صحيفة “منازل” بنسختيها الورقية والألكترونية، وهي تصدر بدعم من مؤسسة “سمارت” لدعم الإعلام الحر، وحملة أغنياء من التعفف. ما يحز في النفس، هو ما يعانيه قسم التلاسيميا في المشفى الوطني، إذ إن 340 طفلاً مصابون بالمرض، يضاف إليهم 200 طفل من المحافظات الأخرى المجاورة للرقة، كانوا يتلقون العلاج في المشفى الوطني بالرقة أيضا، ولم تعد تتوافر الأدوية الخاصة بهم.

في شارع المجمع، توقفت مجموعة من الشباب، في يد أحدهم بيان، وزّعته “داعش”، يحثّون فيه النساء، على ارتداء الحجاب. سمعتُ أحدهم يقول : الآن يطلبون لبس الحجاب، بكرا بيفرضوا لبس الحجاب. خطوة… خطوة. ردّ عليه أحد أفراد المجموعة بالقول: ما بيكفينا قصف الطيران، والقذائف المجهولة المصدر، والخطف، حجاب كمان! استوقفتني كلمة القذائف المجهولة المصدر، فسألته: منّين عم تجي القذائف المجهولة؟ قال : أووووه. في ألف جهة. قلت له: متل مين؟ قال: كل المستفيدين من الوضع الحالي، كل جماعة بيخطر على بالها تحرّك الجو، ترميلها كم قذيفة حام… حيم، بيصير الأكشن. قلت: معقول هيك؟! قال: شو حضرتك مو من الرقة، عم تسألني كأنك ما تعرف شي؟! اقتربتُ منه، وطبطبتُ على كتفيه، وأنا أرسم على شفتي ابتسامة ليس لها هوية. صدق من قال: ما نسمعه أكثر مما نراه.

في الليل تركت نافذة أحلامي مفتوحة، وتوسدتُ الأمل بالعودة سالماً، بعدما تأكدتُ من أن الرقة أصبحت هدفاً لفئات عدة. ما يحدث في الرقة لا شيء يشبهه، حتى في الروايات، ولا عجب. ربما هي رواية الألفية الثالثة!؟ لم أجد بدّاً من أن أتحدى نفسي، وأنام، وقد أيقنتُ أن الحرية لا يمكن أن تكون فردية.

في الصباح ذهبتُ للاطمئنان على أحد جيراني، والسلام عليه، وشرب القهوة عنده. لقد أرهقتني مسافة الغموض التي كانت بيني وبين كل من التقيتهم، وبيتي لم يعد فيه ما يؤكل، أو يشرب، فاستقبلني بالترحاب. إلى فنجان القهوة سألتُه كيف يرى الوضع. أجابني: والله يا جاري، صار بدنا نكون متل جوكر الشدّة، لحتى نقدر نعيش. تصور لم يعد أحد يسأل عن اسم القاتل، كلنا نسأل عن اسم المقتول! أعجبتني تلك الملاحظة. ودعته بعدما شربنا القهوة، وعدت إلى الشارع، وحين لم أجد صورتي في مرايا الأصدقاء، قفلتُ راجعاً، مروراً بكنيستي الشهداء، وسيدة البشارة، اللتين استوقفتاني لتكون لهما قصة خاصة، سأحاول معرفة أحداثها فيما بقي لي من وقت في مدينة الرقة.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى