صفحات الثقافةعزيز تبسي

في الصباح كما في المساء

عزيز تبسي *

ومن طرف عينه كان يرى شفتيه تتحركان، وذراعه ترتفع وتنخفض بغضب، وتحمر وجنتاه من أثر الانفعال. لا يتوقف عن الكلام وهو يرفع كفيه من حين لآخر إلى أعلى رأسه بحركة لاإرادية، ليعيد شد قبعة الصوف نحو أذنيه، ويعيد إشعال السيجارة «الحمراء الطويلة» التي تنطفئ ذاتياً، بضغطات مواظبة على مسننات القداحة الصينية.

ـــ لكني لا أسمعك… دعنا نعبر هذا الشارع، الذي لا يهدأ هدير مولداته الكهربائية.

يركل بغضب علبة المياه الغازية المعدنية، يركل الهواء الساكن، يعبر فوق أكياس القمامة المركونة على أطراف الرصيف، وزوايا العمارات. يمران جانب هرولة ثغاء أطفال يقلدون الخراف الجائعة، وهم يتفقدون أمهاتهم المختفيات في زحمة الرصيف تارة، الظاهرات على أطرافه تارة أخرى.

صوت البائع يعلو على الأصوات جميعها بتنغيمة طويلة: لم نعد نلتزم بالكفالة، ما من كفالة من اليوم وصاعداً… ترى هل عنى بهذه العبارة الثقيلة السلع الكهربائية الموزعة أمامه على الطاولة الخشبية، أم كان يعني أشياء أخرى لا تظهر الآن للعيون المتلهفة لشراء سلع على «قدّ مصرياتها». وبائع آخر يجيب على استفسارات زبائنه عن الأكياس الملونة الموزعة على بسطته الخشبية: لا!! ليست عصائر، هذه سوائل منظفات نضعها في أكياس لأن معمل العبوات البلاستيكية احترق. وهناك أكياس الحليب الجاف الشفافة. وكانا قد خمنا قبلاً أنها من الحليب الذي يسرق من حصص برنامج الدعم الغذائي الذي تشرف عليه إحدى منظمات الأمم المتحدة.

وأخيراً، شده من كتفه إلى يمين الشارع المهادن، ومضيا على رصيف طويل ضيق في زقاق يفضي إلى زقاق أضيق، هناك اقتربا بعضهما من بعض كأنما يتعرفان على وجهيهما للتو، كما كان يحصل عقب نهاية الفيلم، والخروج السريع من صالة السينما المعتمة.

ـــ كأننا في محشر أرضي، ثلثا سكان المدينة يعيشون في هذا الثلث المتبقي.

أمامهما عبرت بسرعة شاحنات السوزوكي والهونداي، يعلوها الأثاث المنزلي للنازحين الجدد من حيي الأشرفية والشيخ مقصود. تعبر سيارات الدفع الرباعي، بزجاجها الغامق، تخرج من نوافذها فوهات البنادق وقسم من سبطاناتهم، والغناء الريفي الهادر في مديح قطعان الماعز، وسيارات الخدمة العمومية التي يتفاجأ سائقوها بالتغييرات اليومية على طرقات مسيرتهم الاعتيادية، متثبتين في مواقعهم، غير متمكنين من التقدم إلى الأمام أو التراجع نحو الخلف، مطلقين بجنون زمامير النجدة والارتباك، كأنهم في موكب عرس يختنق بحبل الزغاريد الغليظ.

ـــ لا أميل للأحاديث على الماشي، أفضل التحديق في عيني من أحادثه…. من هناك آخذ الكلام لا من الفم الجاف.

يختاران بعد تفضيلات محدودة، مقهى «أسوان» المنزوي، القليل الزبائن. وتتحقق بعد جلوسهما وإبلاغ النادل بطلبهما، الفرصة لسرد طرفة يتبادلها الناس هذه الأيام: صعد الشهيد إلى الجنة، ووجد الشبيح قد سبقه إلى هناك جالساً على مصطبة عالية. وسأله:

ـــ ولاك ع…، أش عم تساوي هون؟

ـــ أنا شهيد!!

ـــ العمى يضربك، من وين صرت شهيد ولاك!!

ـــ هادا كرم من الله. أنت يا صرماية صرت بتعرف بالشهادة أكتر من الله؟!

ـــ لا. حاشى.

ـــ الله إعتبرني شهيد.

ـــ إيه ع راسي، ويتابع بلهفة وارتباك الواصل حديثاً من درب شاق طويل، إذا أنا وأنت هون، لكان مين بجهنم…

ـــ هدوليك… وأشار بكفه إلى الأسفل، حيث الناس الذين يجوعون ويحترقون في المدينة.

وأخيراً ضحكا، وشربا كوبي الماء المركونين فوق الطاولة على آخرهما، وأشعلا سيجارتين.

تداولا ببعض التحليلات السياسية المخمورة، الأكثر رواجاً وهيمنة على الإعلام، من التي تذكر بفائض التحليلات الهزلية في سنوات سابقة وهي تقارب تفكك المنظومة التابعة للاتحاد السوفياتي، حين كانوا يكتبون عن دور سياسات الحزب الشيوعي في إيقاع بولونيا تحت ثقل مديونية تتجاوز الأربعين مليار دولار، ويكتبون بأنفسهم بعد أسابيع أن إحدى أهم المشكلات العميقة للتنمية في جمهورية رومانيا الاشتراكية أنها بلا ديون على الإطلاق… مقاربات لجوجة متهورة، كأنها ذخيرة ضرورية لإنجاز معارك يومية، تتقدم بزاد معرفي متواضع وبدوافع سياسية محددة مسبقاً، تهدف السخرية والتهشيم، مشفوعة بأثقال من العدمية التاريخية، تُظهر كل ساعة ويوم مقدار عجزها عن فهم وتقييم أي تجارب تاريخية كبيرة أو صغيرة.

يذكران، وهما يرتشفان القهوة ويعبان أنفاس السجائر، واقعة الاستجواب العاجل أمام حاجز الكتيبة المقاتلة، ويضحكان بعدها طويلاً، حيث يجب أن يبكيا أطول، حين حدق الأمير الشاب ـ وهو غير «الأمير الصغير» ـ في وجهيهما وتمتم بعبارته العفوية:

ـــ العمى، لا ذقن طويلة ولا سبحة أطول وخواتم في خنصر كل منكما، أكيد أنتما علمانيان!!

كانا يأملان، كما الملايين المحلقة بأجنحة من ريش وشمع، تحول اسم البلاد إلى لفظة جلالة تحتمي به العصافير، كما كانت تحتمي بالمعاطف المنشورة على حبال الغسيل في الشرفات، قبل أن تمزقهما معاَ الطلقات الفاشية المجنونة.

[ [ [

يجب أن تكون في البيت قبل المغيب، الشوارع مظلمة ومهجورة من العابرين، حتى مصابيح البلدية تطفئ ولن يبقى لك سوى ضوئك. يجب أن تحترز دوماً وتحمله في حقيبتك وتتأكد من جاهزيته للعمل، عله يجنبك رامات المياه، والحفيرات السطحية والعميقة، وفتحات الصرف الصحي المسروقة مغاليقها الحديدية، والانكسارات المفاجئة في أطراف الأرصفة، ولكي يراك بوضوح من بعيد، من يحرس قلق السلطة خلف أكياس الرمل.

تحدث عمليات خطف تبدأ بطلب الفديات وقد تنتهي بالقتل الأكيد. وهناك التحرش بقصد الإهانة، وتأكيد جذوة السلطة الملتهبة، وحضورها الدائم في الأمكنة كلها. هؤلاء من الذين بقوا في المدينة، ليس لقلة حيلة، ولا لافتعال مآثر ثورية رومانسية، بل لكونهم لا يستطيعون غير الموت أو استكمال الحياة حيث كانت يوماً صرخات الولادة.

* كاتب من سوريا

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى