صفحات الرأيعقاب يحيى

في الطائفية وموقع النظام منها

 


جلال / عقاب يحيى

على الدوام تجنّبت معظم القوى الوطنية واليسارية الخوض في موقع الطائفية من العمل السياسي، وحدود تداخلها في النظام الأسدي، وفي المجتمع.. إما لخوف من خطأ في فهم الآخر، أو باعتماد التحليل الطبقوي الذي يعتقد أنه وهو يُرجع الظاهرات الاجتماعية، جميعها، المباشرة، الجلية وتلك شديدة التداخل، غير المباشرة إلى الصراع الطبقي ومكوناته ومؤشراته يرتاح فيقفز فوق دمّلة من النوع الثقيل، وإما لأن الانتماء الفكري ـ السياسي عند أغلبية تلك الاتجاهات هو فوق طائفي، وفوق ديني، أو يخاف شبهة التلوّث، وبالتالي : اعتبار الخوض في مسائل من هذا الطراز ارتداد، ورجوع إلى ما قبل وطني وقومي، ناهيك عن ما قبل يساري، وأممي….بينما يهسّ بها المجتمع، وتنتشر في الأوساط الشعبية بقوة، تغذيها ثقافة ماضوية لم تتجاوز أسار التخوم القديمة، وتهيّجها عديد الموضعات والممارسات الفجّة التي لا يمكن حذفها من التحليل، ولا شطبها من لوحة حراك ومشاعر المجتمع، عدا عن وجود قوى واتجاهات كثيرة تنشرها لمصلحة فيها، وصولاً إلى استراتيجيات صهيونية تستهدف تمزيق المجتمعات العربية عمودياً، لأنها الأكثر وحشية، وديمومة، ودموية والتي يمكن أن تؤدي إلى الحروب الأهلية والتفتيت طويل الأمد..

إن موضوعاً بهذا العنوان كبير، ومهمّ يستلزم دراسات موضوعية للإحاطة به، وبما يتجاوز مقال سريع، ومع ذلك سأحاول الاختصار ما أمكن، والتركيز على فعل وتركيبة النظام وموقعه من الطائفية، وبأمل أن يفتح ذلك المجال لحوارات مسؤولة لا تخشى الحقيقة ..

1 ـ الطوائف، أو المذاهب جزء من مكونات شعبنا التاريخية، والتي نشأت على قاعدة الاختلاف ـ متعدد الأسباب ـ مضموناً وشكلاً حول فهم الدين وسيروراته، والحكم والصراع عليه، ومسائل كثيرة نظرية وطقوسية دخلت على خطه في منعرجات التاريخ لتنتهي بموضعات متعددة في بلدنا لها شيء من شخصيتها وثقافاتها وخصوصياتها .

عبر مسار الصراع السياسي، المذهبي كان العنف وسيلة شائعة للقضاء على الآخر وتصفيته، أو إضعافه، مما أسهم في تشكيل تراكم منفوخ، ومخبّأ تحت طيّات الذاكرة والوجدان الشعبي، وموظف بطريقة قصدية، وقد مثّل جزءاً من ثقافة المحيط، وبنيته وبيئته، يتغذى عليها شعبياً، ويتضخّم ويُستعاد بكيفيات مسيّسة من قبل أصحاب المصلحة، ومعظم رجال الدين المتشددين الذين يجدون في توسيع الخندقة استمرارية وقوة لهم ولنفوذهم، ومبرر وجودهم، ليعشش في قاع المجتمع وسراديبه .

2 ـ المشروع النهضوي، الوحدوي، القومي في جانبه الحداثي، وعلى صعيد الشعارات العامة طرح آفاقاً فوق دينية ومذهبية، فوق عشائرية، وفوق جميع مكونات ما قبل قومية، وبذهن روّاده أن دخول العصر، وإقامة الدولة الحديثة، الواحدة، التقدمية، شبه العلمانية، والتي تحقق فصل الدين عن الدولة، وتكرس المساواة والحريات العامة…. سينقل المجتمع بكل بناه القديمة، وتركة قرون الفوات والتخلف والصراع ما قبل قومي إلى حالة الانتماء الأرقى حين يصبح الوطن هو الجامع، والهوية، ومنبع الثقافة والإبداع، والتعامل مع الآخر الخارجي .

3 ـ كان البعث في تأسيسه وفترة صعوده من أبرز الحركات التي حاولت مواصلة حمل المشروع النهضوي ـ الوحدوي الذي عرف تقطعاً، وبواراً بعد فشل “الثورة العربية”، وتحطيمه من قبل الاستعمار المباشر، مؤكداً على العروبة جامعاً، وموحّداً يرفض ما قبلها، ودونها.. فعرف انتشاراً كبيراً في مناطق المذاهب الإسلامية غير السنية، والتي تقطن الأرياف على العموم، مثلما كان الإقبال على التطوع في الجيش يعبّر عن مخرج من واقع الفقر، والتهميش، والعزلة ..

وكما يُلاحظ إقبال القوميات غير العربية على الأحزاب الأممية والدينية التي تطرح فكراً فوق قومي(لأنها تجد نفسها فيها ) .. فإن إقبال الأقليات الدينية(بما فيهم المسيحية) على الأحزاب القومية، والقومي السوري، وما دونهما.. يعبّر عن اتجاه عام فيها لتحقيق الذات من جهة، والاندماج مع الآخر من جهة أخرى .

ولئن عانى الحزب القومي الاجتماعي السوري تلك الأزمة العاصفة بعد اغتيال الشهيد المالكي، واتخاذ قرار بتصفيته وملاحقته (وهو الذي عرف انتشاراً سريعا بين المسيحيين والأقليات الإسلامية)، فإن البعث نجح في استقطاب ثقل هام من أبناء الأقليات الإسلامية : مدنياً وفي المؤسسة العسكرية، وباتوا قوة ملحوظة فيهما، وكان لهم دورهم البارز في سلسلة الانقلابات العسكرية، وخاصة انقلاب الثامن من آذار 1963 الذي أوصل البعث، أو استخدم البعث واجهة وإطاراً، مع الإشارة المهمة إلى فقدان البعث قيادات وإطارات وقواعد مدينية مهمة بعد الوحدة، وبعد خلاف البعث مع عبد الناصر، والتحاق عديد هؤلاء بالناصرية، وهو الفقدان الذي لم يستطع تعويضه في السلطة، فارتكز إلى نوع من الواجهية التي لا تخلو من الانتهازية بأمل أن ينجح في ذلك لاحقاً .

4 ـ نظرياً بدا البعث وحكمه فوق طائفي، يرفض الاعتراف، بل حتى الكلام بوجود مشكل طائفي، في حين أن ثقل الأقليات الإسلامية غير السنية فيه ظهر قوياً، ومثار تحفظ وتعليق الشارع الأكثري : السني، وقد ازداد هذا الثقل كمّاً ونوعاً مع التصفيات الواسعة، المتلاحقة للضباط”الانفصاليين”، فالناصريين والمستقلين، وتمركز أكثر أيضاً في بروز عديد الضباط الذين ينتمون للطائفة العلوية بعد الصراعات البعثية الداخلية وما أسفرت عنه من تصفيات وخروجات : (حركة 23 شباط ـ حركة سليم حاطوم ـ حالة اللواء أحمد سويداني)..وصولاً إلى حافظ الأسد وتكتله، وانقلابه ..

********

5 ـ كان واضحاً منذ بداية تشكيل الأسد لتكتله العسكري بروز قوة من أصل علوي فيه، بل ثقل حاسم (مجموعة عمران والعليات ـ وجود جو عام عسكري من وسط علوي مؤيد).. حتى إذا ما نجح الانقلاب الأبيض، وتبخّرت الوعود والآمال بإسقاطه، والانقلاب عليه.. انبثقت الموضعة الطائفية بفجاجة تستدعي طرح عديد الأسئلة حول حقيقتها، وخلفياتها، وأبعادها، وهل الأسد الذي ينتسب لمدرسة بعثية، كما يفترض، ولو شكلياً، متديّن في داخله، وطائفي في عمقه، ويسير بهدي مشروع مسبق، أم أنه يستخدم الطائفة لأجل تدعيم حكمه واستمراره ؟؟..

ففي الكلية العسكرية، بدوراتها المتعاقبة، وفي البعثات للخارج، وفي مفاصل الجيش، والأجهزة الأمنية برزت الظاهرة الطائفية بما لا يتناسب أبداً والتوزع المذهبي، بل ولا حتى البعثي لحزب الواجهة والتمريغ، الأمر الذي ساعد على انتشار التحليلات والأحكام الطائفية، وعلى حبك القصص عن وجود مؤامرات مسبقة للسيطرة على البعث والحكم، وقصص المجلس الملّي ودوره، والتنظيم الطائفي داخل تنظيم البعث والجيش.. وغيره كثير مما يشحن الأوساط الشعبية ولو بطريقة الهمس، بل وكثير النخب والمثقفين، وحتى الأحزاب السياسية.. في حين كانت تسخن فيه الخندقة الطائفية بكل تلاوين الحذر وردود الفعل المتبادلة، والاتهامات، والنظام مرتاح وسعيد بما يجري لأن مثل ذلك يخدمه، ويأبّده، وهو المطلوب، مثلما وجدت فيه القوى التكفيرية ـ الظلامية الأرض الخصبة لتناوله من أرضية طائفية، وباتجاه إثارة الآخر ـ السني ـ على هذا الأساس، وركوب قوى محلية وعربية وإقليمية وخارجية كثيرة على الخط واستثماره ومحاولة توجيهه نحو مزيد من الخندقة والعداء والتشكيك، فالموضعة التي تتخذ عديد الصيغ والأطر .

6 ـ والحق أن الارتداد الشامل الذي دشنته مصر وسورية عام 1970 كان في أساسه إعلان إخفاق، ووفاة ذلك المشروع النهضوي واستبداله بسياسة الترقيع الأحادي، والتسويات السياسية، ومجتمعات الاستهلاك التي قضمت البنى وهشّمت محاولات التحديث والاستقلال الاقتصادي والسياسي والثقافي وغيره(على قاعدة هزيمة حزيران وتفاعل نتائجها).. والذي نجم عنه بشكل طبيعي، أو مفتعل ، نكوص كلي نحو القاع، والماضوية، ومحاولة انتشال وسائل الحماية منهما، فبرزت، وقويت العائلية والعشائرية والطائفية و”الصحوات الدينيةّ”، وغيرها من الأطر الأهلية كنوع من الحماية والتعويض، والبديل .

الارتداد في هذا المجال تجسّد في توظيف المكونات المجتمعية وتنشيطها وقولبتها بما يتواءم وتفتيت قوى المجتمع ووحدته الوطنية، وخلق صراعات جديدة تخندقه في أسيجتها بدل الصراعات الطبيعية، وبدل مواجهة النظم الأحادية الفاسدة المفسدة، فانتعشت القوى الما قبل حداثية، وهمّشت، وحوربت الاتجاهات اليسارية والديمقراطية والوطنية، فوجدت القوى الدينية ـ كلها ـ مرتعها الخصب لتصول وتجول، ونظام الاستبداد يشجع تارة، ويجزر تارة أخرى، وهو جد منشرح بهذه اللوحة التي يدعمها، وينشرها، ويتلاعب بها تقريباً وإبعاداً، وملاحقة أو مغازلة، بينما يستمر في تحصين قلعته الأمنية بالمزيد من الأقرباء وأبناء العشيرة، والمرضي عنهم من الطائفة .

7 ـ عند انفجار الصراع الدموي بين النظام والحركة الدينية، والأخطاء القاتلة للأخيرة في الاستهداف الطائفي، والقتل على الهوية، وتقديم الفزاعات، والمبررات التي يبحث عنها النظام، نجح، وإلى حدّ كبير في تجييش المشاعر، وسوق العديد من أبناء الطائفة العلوية ـ الوسط الشعبي، وحتى كثير المثقفين ـ إلى تموقعه وخندقه، وتنصيب نفسه حامي الحمى، والمانع من “إعادة” تاريخ المذابح، والتصفية، والاستغلال المركّب، والتهميش وغيره من مقولات منهّجة تنتشر كالنار في هشيم يابس، ليضرب بها عصافيراً عدّة، وبالوقت نفسه رفع عقيرة شعارات قومية وتقدمية ويسارية تخلط الأوراق والألوان والتخوم، ولا مانع من الانتقال بها إلى ” مواجهة المؤامرة الخارجية” التي ما انفكّت برقعاً، وفزاعة، وحزّاناً لتخوين وتخويف الآخر، وحشر القوى اليسارية  والوطنية الديمقراطية بين مخالبه .

وحين أقام النظام مجازره المتنقلة، وقوفاً عند مجزرة حماة : العنوان، والكاشف، سمح لمخزون التعبئة الطائفية بالانفلات المدعّم بالتحريض، والاستباحة لتكون مذبحة مركّبة الفعل والآثار.. ما تزال تعتمل في النفوس المكبوتة بفعل الخوف، والقابلة للحياة في المنعطفات، وحين يتاح لها التعبير، خاصة وأنه نكأها في جمعة العشائر وكأنه يغذي فتائلها .

إن طائفية النظام واضحة في تركيبه، ونهجه، وسعيه لتجنيد الطائفة حول نظامه، واستخدامها رأس حربة في مشروعه الأحادي، العائلي، وهي تركيبة متضافرة مع بنيته الطبقية الخلائطية، ومع قصديته في بناء شبكة تحالفات قوية مع التجار الجدد والبرجوازية الطفيلية التي نشأت، أو أنشأها على هامش القطاع العام، وفي شبكته المافيوزية حيث الأقارب والأهل والعشيرة جنباً إلى جنب أثرياء المدن الجدد، وحيث الواجهات السنية، ومن الطوائف الأخرى تملأ الشاشات وعناوين المسؤولية الإدارية، والوزارة، والمؤسسات الفارغة المضمون، الهزيلة الدور .

إن هذا الجانب الطائفي الواضح القسمات والوجود في قطعات عسكرية كبيرة أغلبيتها طائفية، وفي عديد قياداتها، وقيادات الأجهزة الأمنية والجيش والمفاصل الحيوية للدولة، وعلى رأسها، وفق هرم معروف أبناء الأسرة فالعائلة، فالمنطقة، فالعشيرة، فالطائفة على العموم .

الموضعة لا تقتصر على الجانب العسكري والأمني، بل إن النظام وعبر تحيّز أجهزته الصارخ لأبناء الطائفة، نجح في استقطاب وتوظيف، وتجنيد نخب واسعة مثقفة(تحمل شهادات عالية) تتحلّق حوله، ويستثمرها، وأمثالها من الطوائف الأخرى، في ترويجه ومعاركه وفي عمليات التسويق والقولبة، والهيمنة على الرأي العام ـ إن أمكن ـ في الوسط الشعبي للطائفة .(يكثر وجودها ودورها وظهورها وفعلها منذ اندلاع شرارة الثورة السورية)، وفي الأدباء والفنانين والنقابات وغيرها.. لإحكام الطوق على المجتمع، والقيام بعملية تشويه مبرمجة لكل معارضة، وللثورة السورية وطابعها السلمي، ومطالبها بالحرية، بالتأكيد .

8 ـ إن طائفية النظام، وأيّاً كان مستواها وموقعها فيه، لا تعني أبداً أننا بمواجهة نظام الطائفة، وأنه يمثل الطائفة العلوية، كما لا يعني بداهة أن الطائفة العلوية منخرطة فيه، وتمنحه ثقتها كمعبّر عنها. أو أنه بلون طائفي واحد في مواجهة الطوائف الأخرى، ذلك أن العملية شديدة الاختلاط لأن تركيب النظام ليس أحادياً طائفياً، بل يضم تحالفاً واسعاً من قوى طبقية متعددة الانتماء المذهبي، وتتجنّد داخله أعداد كبيرة من رجال الدين السنة، والفقهاء والمفاتي، وعديد المتدينين السنة، ومن المسيحيين، والطوائف الأخرى.. وفق شبكة واسعة لا تعدم امتداداتها وقواعدها الشعبية  .

وبالوقت نفسه فإن قطاعات ونخباً وقوى واسعة من الطائفة العلوية كانت في مقدم من تصدى للنظام وعارضه في زمن مبكر، وشمل ذلك مروحة واسعة أيضاً من اتجاهات قومية ويسارية، وعامة.. دفعت أثماناً مرتفعة في السجون والاستشهاد والاغتيال والتهجير القسري والحرمان من العمل والحقوق، وعانى بعضها معاناة مضاعفة من كيد النظام، ومحاولات تأليب المحيط، ومن عمليات الشك، ونظرة الآخر التي لا تخلو من الريبة .

إن واقع الحال في عموم مناطق الطائفة العلوية لا يختلف كثيراً عن جغرافية المناطق السورية الأخرى من حيث الحرمان، والفقر، والتهميش، ولئن استفادت بعض الفئات من النظام فإن تلك الاستفادة تبقى وقفاً على القلة من كبار الضباط والسرّاق والمنتفعين، بينما الأغلبية، بما فيهم الجنود وصفّ الضباط ، والمواطنين يعيشون في سقف متقارب لزملائهم من الشعب السوري .

9 ـ بالمقابل : فإن الحركات الأصولية المتشددة، والتكفيرية، ومعها (جيوش) لجبة من رجال الدين والخلفيات الحاقدة المتخلفة، والاستراتيجيات الإقليمية والدولية(من حيث تدري أو من حيث النتيجة) تعمل على إخراج الآخر غير السني، وغير الإسلامي، أحياناً، من دائرة الدين، والمجتمع، والحقوق، وترفع شعارات استعدائية تؤجج الحقد، والشك والخندقة، وهي تلتقط أي إشارة لتضخيمها والنفخ بها وتوجيهها ضد الآخر بما يؤدي إلى تقسيم المجتمع، وتسخين المشاعر، وتهيئة الأجواء لحرب أهلية طائفية لن تصبّ إلا في مصلحة ومخططات أعداء الوطن، يساعدها في ذلك وجود تنظيمات قائمة على أساس ديني ـ مذهبي ـ وشبكة علاقات اجتماعية تحتية قوية، وفضائيات كثيرة منتشرة تبثّ الفرقة، والفكر المغرق في التشدد، والشكلانية، والطقوسية، والتجهيل، وتخطيء ونفي الآخر .

آخذين بالاعتبار حدّة الخلافات المذهبية التي عرفت نقلات خطيرة بعد احتلال وتدمير العراق، ودور (الأحزاب الشيعية) المتحالفة مع إيران في تغطية الاحتلال والتعامل معه، وما شهده من مذابح طائفية، وموضعات وتحالفات قائمة على هذا الأساس، وما يحكى عن الهلال الشيعي ودوره في مكونات العقل المشيخي لدى جميع المعنيين، وموقع ودور إيران حاملة المشروع الخاص بها، والراكب، والمختلط مع إيديولوجيا دينية على العموم، ومذهبية ـ شيعية بوجه التحديد، والاستخدام، والقابلية للتناول، ومفارقات موقفها في الشأن العراقي، وتدخلاتها القوية في الخليج، وردود الفعل المماثلة، وازدواج المعايير في التعامل مع الشأن السوري منذ تفجّر الانتفاضة ـ الثورة حيث تتخندق الأحزاب الشيعية وتلك التابعة لها، ومعها إيران بالطبع، في خندق النظام على طول الخط، ووفق خطاب تسويقي وتبريري لا يقنع أحداً ..

*******

10 ـ عندما نأتي إلى الحالة السورية الراهنة فقد كان الملفت والمثير للانتباه أن أعمدة النظام، ومنذ الأيام الأولى لاندلاع شرارة الانتفاضة السورية أرادت استباقها باتهامها طائفياً وتصنيفها على أنها فعل(سني) موجّه ضد الآخر العلوي، وكان هذا المنطق الغريب شديد الخطورة والأثر حين رسّخه رأس النظام بالتركيز على الفتنة التي لا تعني سوى هذا التوصيف المقيت.. الأمر الذي فتح الأبواب لكشف الأغطية عن النظام، وعن جملة تسويقاته السياسية، وأبان عُقده، وخططه، ونواياه واتجاهه لحرف مسار الثورة وإرغامها على الدخول في قمقم تصنيفه وما يريد ..

ورغم أن قادة الثورة أوضحوا، وأكدوا، وأبانوا مراراً، وعلى الأرض، هوية الثورة باعتبارها ثورة الشعب بكل أطيافه ومكوناته، وأن الحرية للجميع هي الغاية والهدف، ورغم الشعارات الدالة على الوحدة الوطنية، والمناشدات التي لا تخلو من التكرار المقيت عن رفض الطائفية، والتوجّه للطائفة العلوية كمكون رئيس في لوحة الوحدة الوطنية السورية.. والكثير الكثير من الخطب والتصريحات التي تعجّ بها الفضائيات وصفحات الفيسبوك وغيرهما… إلا أن تعامل النظام القمعي، وعديد الممارسات المرعبة في وحشيتها وحقدها، واستهداف المناطق السنية الثائرة بأسلوب عنفي غير مبرر، وإطلاق يد الشبيحة والمليشيات ذات اللون الطائفي الواضح..

كل ذلك يشير بوضوح أن النظام يقود الأمور إلى الحرب الأهلية ـ الطائفية ـ إن استطاع، لأنها، على ما يبدو ـ مخرجه الوحيد ـ المتداخل مع فزاعة المؤامرة الخارجية ـ الداخلية ـ للخروج من الورطة التي وقع بها، وفشله في إجهاض وتدمير، وإخضاع حركة الشباب ـ الشعب السوري.. وما يرافق هذه العمليات المبرمجة من بثّ القصص عن تصرف طائفي منفلت هنا، وردّ فعل مدان هناك، ونشره في أوساط الطائفة العلوية لتأجيجها وسوقها إلى حيث يريد .

بالمقابل .. لا بدّ من الإشارة إلى مخاطر الفكر التكفيري ودوره في بعض الفضائيات والتصريحات، ومحاولاته الشحن والتعبئة على أساس طائفي يزيد الطين بلة، ويؤجج وضعاً شديد الحساسية وقابلاً للتصاعد، مع التأكيد على أن بعض التصرفات الطائفية، وردود الفعل، وبعض الجرائم المرتكبة ـ إن صدقت الروايات السلطوية ولم تكن من صناعة أجهزة تتقن التأليف ـ هي مرفوضة، وخطرة، ولا تمتّ بصلة إلى هوية وجوهر الثورة السورية، ورايتها المعلنة بوحدة الشعب، ووحدة الهدف، والمصير، والتركيز على دولة الحق والمساواة، دولة الحريات الديمقراطية المدنية التي يصونها دستور عصري يحقق العدل والمساواة بين جميع مكونات الشعب السوري : السياسية، والدينية والمذهبية، والقومية وغيرها .

11 ـ وإذا كانت ثورة الشباب ـ الشعب بريئة من كل نقطة دم تراق، وإذا كان النظام هو المسؤول الأول والمباشر عن كل ما يجري، وعن محاولات تشويه، أو جرجرة الثورة بعيداً عن هويتها ومسارها وجوهرها : السلمي، الديمقراطي، المجموعي.. وهو ما تؤكده، وتعمّقه في مواقفها وبياناتها، وفي أفعالها وشعاراتها وأسماء جُمعها..فإن ضعف القوى السياسية الوطنية والقومية واليسارية، وبلبلة مواقفها، ومراهنة كثيرها على الحوار مع النظام ـ بعد كل الدماء التي أريقت ـ وعلى نوايا، أو “تمايز” رأس النظام عمّن حوله من وحوش القتل والعنف المنفلت العقال.. إنما يشكل خللاً مهماً في فعالية استقطاب قوى المجتمع من جميع الفئات، خاصة في أوساط الطائفة العلوية لمزيد من طمأنتها على مستقبل مشترك خال من الثأر والاستهداف والاجتثاث، ومن حرب الهوية، وحرب الطوائف لفكّها عن النظام ودعوتها للمشاركة القوية في حراك وثورة الشعب جنباً إلى جنب المكوّنات السورية الأخرى، وفضح غايات النظام ومحاولاته جرجرة البلاد إلى أتون حرب أهلية لا مصلحة ـ بالتأكيد ـ للطائفة العلوية فيها .

كما أن وجود القوى الوطنية، بكل أطيافها، بقوة في يوميات وفعاليات الثورة السورية، وطرحها صيغاً عملية للإسهام فيها، والإسراع في تأطير قياداتها الشابة، والإفصاح القاطع عن مكنوناتها(بيان التنسيقيات خطوة جد هامة على هذا الطريق).. إنما يخفف حمأة التجييش المذهبي التي تقف خلفه قوى عديدة، على رأسها نظام الطغمة المأزوم، المذعور، كما يساعد على تصليب وتعميم سلمية الثورة، ويقطع الطريق على دعاة التعصب والفتنة ..

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى