صفحات الرأي

في «الطبيعي» أو «التقليدي» وفساد خلافته للـ «مصطنَع/ أحمد بيضون

 

هذه أيامٌ ينساق فيها محللون أفراد إلى ممالأة مزاجٍ منتشر، كتابةً أو مشافهة، فينتهون إلى دعوةٍ أو خلاصة يبدو منطقها غاية في الإحكام: إن تعذّرت المعاشرة بالمعروف فليكن فراق بإحسان. والمعنى الواضح لهذا المبدأ ههنا أنه ما دام وجود الأطراف على أرض ذات وحدة سياسية يفضي إلى تذابحهم… ما داموا غير قادرين على الوصول إلى صيغة تستبعد إخضاع جهةٍ لجهة وتنشئ حالة من الرضا المتبادل… فليتوزّعوا الأرض نفسها فيما بينهم لتصبح الدولةُ دولاً. على أن ينظر لاحقاً في أمر العلاقة الفضلى التي قد يتيسّر إنشاؤها بين الأوطان الجديدة. يظهر إذن أن العنف قد نقلنا من الحلم بأنواع من الوحدة كانت صيغها تختلف باختلاف الحالمين إلى الحلم بانواع من الفرقة أو التقسيم لا بدّ أن يظهر تنوّعها أيضاً حين يأخذ هذا الحلم مداه ويروح ينمو ويتفرّع بحرّية.

على أن التفكّر في ما يقال حتى الآن من كلام هذه وجهته لا يلبث أن يخرجنا، في الواقع، من الشعور بإحكام هذا الطرح إلى الشعور بعكسه. والسؤال الذي يجمل أسئلةً كثيرة تتّصل بهذا الموضوع هو التالي: «ما الذي نحصل عليه بتفكيك الأوطان القائمة وفقاً لخطوط الصراع الذي يعصف بها؟ هل هو شيء مختلف في الاتّجاه المناسب عمّا نحن فيه أم هو شيء من القبيل نفسه لا يخرج الأوطان الجديدة من العنف المتحفّز أو المنفجر إذ لا يبعدها عن أسبابه ويرجّح أن يفضي بها إلى ألوان منه أشدّ هولاً وإلى مشكلاتٍ هيكلية متنوّعة شبيهة، على وجه الإجمال، بتلك التي أنشأته؟». هذا ولنا أن ننزل إلى مستوىً أبعد غوراً لنسأل: «هل الوَحَدات التي تتقدّم الآن على أن كلّاً منها إرهاص بدولة وحداتٌ موعودة بالاستقرار في حال استقلالها أم أن ما يبدو اليوم وَحْدةً «طبيعية» أو «عرفية» مرشّح بدوره للتفسّخ إذا استقلّ… فلا نمعن النظر في واحدة من الوحدات إلا وتبدو وحدتها خلّبية ويظهر لنا ما تحت الوحدة من وحدات؟».

لسنوات قليلة خلت، كنّا نردّ على القائلين لنا إن دولنا كياناتٌ مصطنعة بالقول إن الدول كلّها مصطنعة ولو تفاوتت بينها نسب الاصطناع. وكان من نردّ عليهم بهذا الكلام عادةً من طلاب الوحدات الكبرى أنصار القوميات الجامعة. وكان من بين ما نقوله لهم إن الوحدات التي يقولون باسترجاعها لم توجد قطّ في الواقع وإن ما وجد من وحدات كبرى أُدرجت بلادنا في خرائطها إنما كان، في الواقع، غير ما يقولون. اليوم يقال لنا إن مكوّنات أوطاننا أو دولنا أثبتت في السنوات الأخيرة أو قبلها إنها لا تريد العيش سوية أو لا تستطيعه. والمكوّنات المشار إليها ليست أمماً أي جماعات قومية «تامّة»، على ما كان أنطون سعادة يصف السوريين، وإنما هي أجزاء من جماعات قومية تتوزّع الواحدةَ منها أوطانٌ عدّة أو هي عصبياتٌ جهوية أو هي طوائف أي كسور من دين أو من مذهب.

يقال لنا إذن أن علينا النظر في تفكيك الأوطان القائمة باعتباره مخرجاً من مذابح أهلية جارية أو ممكنة. وفي هذا ما فيه من مصادرة تفرض، بادئ بدءٍ، أن يكون الذبّاحون أو المتذابحون، في الحالات المطروحة، ممثّلين شرعيين للجماعات التي ينسبون لأنفسهم أو ينسب إليهم تمثيلها. في الدعوة المشار إليها شيء آخر هو القول إن وحدات طبيعية أو تقليدية مدّعاة أصغر من الأمم يجب أن يجاز لها ما لم نكن نجيزه للأمم، بما هي وحدات طبيعية أو تقليدية مدّعاة، أي شطب الأوطان القائمة. كان يراد للوحدات الكبرى أن تخرج إلى الوجود السياسي الناجز بدمج أوطان تضيق عنها متفرّقة واليوم يراد للوحدات الصغرى ان تخرج إلى الوجود السياسي الناجز أيضاً بتفكيك أوطان تضيق بها موحّدة. وكان للتوحيد صفة المصلحة إذ كان يصوّر على أنه استجابة لدواعي القوّة بوجوهها كافّة. واليوم تظهر للتفكيك صفة العجلة إذ هو يبدو استجابة للدعوة إلى وقف المذبحة.

في المبدأ، ليس للتفكيك أو التقسيم أو الانفصال، في الظرف الذي يقال أنه يفرضه، شيء من مقومات الاختيار الحرّ. وذاك أنه ليس من شأن النزاع بين جماعتين، مثلاً، أو بين القوى المنظّمة فيهما (وهذا أقرب بكثير إلى واقع الأمور) أن يعزّز حريّة الاختيار في كلّ منهما. بل إن ما يطرح على أنه اختيار ههنا يطرح في ظرف إنهاك وقسر وسيطرة يجعل منه احتمالاً أوحد ويبعد عنه كلياً صفة الاختيار. وهذا وضع ستكون قد تولّت سوق الجماعتين إليه قلّة هنا وقلّة هناك فرضت كل منهما نفسها فرضاً على الجماعة بدعوى الدفاع عنها. وإذا وجد انسياق من الجمهور وراء حماة الذمار، وهذا موجود، لا بدّ، إلى هذا الحدّ أو ذاك، فيجب النظر، ما دام الظرف ظرف نزاع أهليّ مسلّح، في نصيب العُصاب ذي الطابع الظرفي من هذا الانسياق.

وفي ما يتعدّى المبدأ، يتعيّن النظر في العواقب: عواقب التفكيك أو التقسيم أو الانفصال. ذاك ما نجعله موضوعاً للعجالة المقبلة. فإذا ألزمنا هول العواقب باستبعاد هذه الكأس وجب علينا النظر في صيغة للنظام السياسي يصحّ اعتبارها منصفة لأطراف النزاع وضامنة لمستقبل شركتهم في دولة واحدة. وهو ما نتخّذه مداراً لعجالة تلي العجالة المقبلة.

كاتب لبناني

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى