رياض درارصفحات سورية

في الطريق إلى الهدف

 

رياض درار

هناك من يعتقد أنه مفجر ثورات الربيع العربي وفيلسوفها ،ذلك لأنه من أسف لا يوجد فيلسوف للثورة ،لأنها فاجأت الجميع ،ومن كان فيلسوفاً فقد ضاع في دهاليز السياسة .

وفلسفة الثورة لدى البعض تقوم على اللجوء إلى التدمير الذاتي للقوى الاجتماعية العربية ،عن طريق اطلاق قوى التمرد الشعبي ،وحرمانه من الفكر الذي يوجه سديميته ،فيتحول إلى فوضى يتحكم بها تجار الثورات الفاعلون من قناصي الفرص واللاعبون الكبار من غير صفوف الثوار .

ومما يثير السخرية الشديدة أن الثورات العربية مدججة بالهزال الفكري والقحط .وفي غياب مفكري الثورة تظهر أسماء لا تفرق بين الخطابة والتخطيط ..وبين العقل الخطابي والعقل التخطيطي الإيجابي مسافة كل منها يقود إلى طريق مختلف ….فالعقل الخطابي سوف يجر إلى كلام فكلام فكلام ، وإلى ردود أفعال لا طائل منها ولا أثر لها ..أما العقل الإيجابي التخطيطي فسوف يقوم بأفعال تليها أفعال ….وتراكم الكلام يقود إلى صداع ،وتراكم الافعال هو التوجيه الحقيقي للصراع .

إن العقل الخطابي : يهدر طاقاته في البحث عن مزايا الحق وشرور الباطل ،ويشرد وراء تواريخ الوقائع ،وحجج القانون ،ثم لا يمل من ترديد ما يقول مكرراً ومعاداً حتى يصيب الكلَ من حوله بالملل ..وقد يتصور لنفسه هدفاً، ولكنه يعجز عن تحريك الحوادث باتجاهه .

أما العقل الإيجابي : فإنه يكون في أفضل حالاته إذ يحدد لنفسه هدفاً “بصرف النظر عن ما هو حق وما هو باطل ،وعن تواريخ الوقائع ،وحجج القانون ” ويروح يحرك الحوادث عملياً في اتجاه تحقيق هذا الهدف .

وإن العقل الخطابي : يظل عاجزاً وضعيفاً حتى ولو كان معه الحق والتاريخ والقانون .

أما العقل الإيجابي : فإنه يكون في أفضل حالاته إذا كان معه الحق والتاريخ والقانون

وكم في التاريخ من أمثلة انتصر فيها العقل الإيجابي مرات كثيرة ،وبالباطل .

وكم في التاريخ من أمثلة انتحر فيها العقل الخطابي مرات عديدة ،من شدة احساسه بالظلم .

العقل الخطابي :سوف يتحدث عن الظلم ،عن الأساليب القمعية التي تمارس ضده ،عن الممارسات اللاإنسانية ،عن قتل الأطفال ،عن هتك الأعراض ،ويرد بعصبية : السلاح هو الحل ! ..

العقل الإيجابي :سوف يفكر كثيراً قبل أي رد عصبي ..وسوف يسأل نفسه : ماذا يريد الخصم /النظام / من هذا التصرف ؟ ومن هذا العنف ؟ وكيف أرد الآن ؟

في ظل العنف الأزمة تتجمد .. والمعارضة تحارب نفسها ، وتكتفي بالتهديد والوعيد ، ولا تلتفت إلى المحيط ،ولا تستشرف امكانات الاستفادة منه ،فأصدقاء الخصم /النظام / هم أعداء يتحملون وزر أعماله ،وزر القمع والدم ويشاركونه جرائمه والعقل الإيجابي بعدم الانجرار وراء العنف ،بعدم الجري وراء التسلح ،وعدم الانقياد للشعارات الطائفية ،والاقصائية فإنه يعمل على تحييد أصدقاء النظام ،أو يحرجهم ، ويراكم أخطاء الخصم /العدو / ،ويبحث عن مخارج للأزمة بأعصاب باردة ، وبحركة واعدة .

بين الخطابة والتخطيط ..علينا أن نتخلص من رواسب البلاغة وتهديد الكلام والأوهام التي يراكمها ،لننتقل إلى الرؤية الصحيحة لقوانين المرحلة ،ونستوعب حقائقها ..وننطلق منها إلى الاهداف عبر معرفة شكل الصراع ومضمونه ،وتحديد وسائله ،وكيفية ادارة هذه الوسائل .

فالصراع :هو بين الاستبداد ،والشمولية ، والقمع ….وبين التعددية ،والانفتاح الديمقراطي ،والطريق السلمي .

والوسائل : تمر عبر النضال السلمي المفتوح والمباشر مع خصم عنيد مغرور لا يتنازل ولا يتفهم ، أعمته المصلحة

وأبعده التعالي والغرور.

وادارة الصراع : وهو علم يقوم على التخطيط ،ومعرفة القدرات والامكانات والموارد ،ويسعى لتطوير هذه الموارد لا بالدعاء ، ولكن بالحركة والعمل ، بتجميع المفرق ،وتقوية الضعيف ، وتقريب البعيد ونزع العقبات بالوسائل المباشرة وغير المباشرة … وهذا يبدأ بمعرفة الحالة التي تمر بها الأزمة ……ونحن نمر بأزمة تبدو مستعصية على الحل .

وعناصر هذه الازمة تكمن في :

1- تشتت المعارضة ،والاختلاف في كيفية توحيدها ،والذي يظهر منها أن السعي للتوحيد لا يقوم على وحدة الهدف /وهو المطلوب أصلاً / بل على قيادة المرحلة ،وتوجيه دفتها، وإرادة التفرد بالقرار وبالرؤية ن وادعاء أنه الممثل الوحيد الأعرف ،والأقدر ،وبالتالي الأجدر …(وهذا صراع إرادات ..وهو بمثل هذا الادعاء إنما يتمثل صفات الخصم ،في الاقصاء ،والشمولية ،وإلغاء الآخر ….ووراءه صراع أفكار .. فالكل يريد أن يحسم الموقف من الآخر فكرياً ليرسم المستقبل على هواه ،ويضع أسس التغيير من خلال اعتقاداته )

هذا التشتت .. سوف يبعد سعي الاصدقاء للدعم اذا رغبوا في ذلك , وسيأخر وقوف المحايدين إلى جانب المعارضة لأنهم لا يصدقون ادعاءاتها بسبب ما يرون من استئثار للمنصب واستبعاد للآخر .

2- حجم الأزمة , وحجم التدخل فيها .. فهناك اجندات على حساب الاهداف الذاتية .. وهنا يجب معرفة حجم التدخل وأهدافه وتقديم التصور الذي يعمل على تفتيت جبهة الخصوم وامكانية مد يد العون من الاصدقاء دون تنازل عن السيادة وعن الحقوق المشروعة .

3- حجم الوهم الذي صنعناه لأنفسنا .. بتصورات لا تعتمد الوقائع المنطقية من مثل أن النظام ضعيف وغير متماسك وأنه سيسقط ويتهاوى بأسرع من ما نتوقع , وأن المجتمع الدولي لن يسكت على الظلم , وعلى حجم القوة الذي يستخدم ضد الشعب , وأن الجيش سينقسم عند أول بادرة قمع للشعب , وأن ..وأن.. وأن .. من هذا الحجم من السراب الذي سوقناه لأنفسنا ببراءة وحسن نية , أو بغباء وسوء تقدير … وصنعته أطراف تستفيد من الأزمة بإعلانات تطمئن الناس من نوع : لن نقبل , ولن نسمح , وسنرد , ما زرع فينا الأمل …. وبعد لأي وفي وسط المعمعة رحنا نردد : ” ما لنا غيرك يا الله ” تعبيرا ً عن حجم اليأس الذي صنعه المستفيد بنا .

إن حجم الشجاعة والفداء , والتحمل الصبر , وملاقاة الخطر …. لم تصنع إلا ملحمة إنسانية مميزة تدل على عمق المأساة لدى هذا الشعب , ومدى التوق للخروج من هذا النفق , والشوق إلى الكرامة والحرية شوقا ً لا حدود له …. لكن ذلك لم يتحول إلى قوة , إلى قوة تعرف ما هي حدود القوة ؟! .حدود القوة الذاتية على الأرض ومعرفة احتمالات التدخل في الحدث من أي طرف …. وهل هو تدخل مفتوح أم مقيد , وتحت أي اشتراطات يمكن أن يقع …. وهذا ما يطيل من عمر الأزمة ويزيد عدد الضحايا.

4- حجم العنف الذي مورس ويمارس , ويبدو أن جنون العنف إذا استبد بمن يستخدمه , وإذا أغراه ما يتحقق من نجاح فأن ذلك سيدفع إلى مزيد من الضحايا لا يتوقف , وإلى مزيد من المواجهات ستتسع إلى أبعد من حدود المنطقة , وإلى الفوضى الشاملة …. وهذا عند من يخطط للفوضى , هدامة أم بناءة …. فإنه سيقف متفرجاً وهو يدخن غليونه على الأطلال , لأنه يعرف أنه قد انتصر.

هذا يتطلب منا أن نأخذ الأمور بأيدينا ونتصرف لأن الأزمة تهم كلاً منا فرداً فرداً وبغير استثناء , لأن الأزمة أزمتنا نحن , وبدل أن نكون جزءاً من المشكلة , علينا أن نكون جزءاً من الحل .

علينا أن نعرف قانون الصراع , ونحسب له كل حساب , ونعمل على تطبيق الحل بالحركة المستمرة دون توقف , وفق عقلية إيجابية , تدرك متى تأخذ , وكيف تعطي , حتى تحقق الغاية بأقل الخسائر .

قانون … وحساب … ومن ثم حركة فاعلة ….. دون التفات إلى تقييمات المخذلين , واحباطاتهم .

لأن القانون عند المخذلين عجز .

ولأن الحساب عند المخذلين انهزامية .

ولأن الحركة عند المخذلين انتهازية .

أما الحركة الحقيقية في الأحداث فهي لا تعني الانتهازية , لأن الأحداث تحتاج إلى نفس طويل , وأساليب متنوعة , والحركة حوار متصل مع الحوادث , ومع التطورات , تأخذ منها وترد عليها , ولا تتركها للظروف.

الحركة تحتاج إلى يقظة , وإلى استمرار .

…………..

يبقى السؤال ما العمل , هذا السؤال الذي يتردد صداه في كل أزمة دولية أو محلية أو داخلية , ومن سوء الحظ هذا السؤال يتكرر حين تنعدم الوصفات ! …… فلا وصفة سحرية جاهزة , ولا اختراعاً جديدا ً يمكن أن يقدم على طبقٍ من فضة ٍ أو غيرها .

الذي رفض الحل السياسي بداية , وتابع مسلسل البحث عن طريق يزدحم بالدبابات , وفي أجواء تملؤها الطائرات , ومن خلال صواريخ عابرة للقارات , مع جيوش مدججة بالسلاح ….. تراجع وانتكس إلى مبادرات يتردد في الموافقة عليها , وإذا وافق تحولت إلى مهل تتطلب كفاءة وقدرة على السباحة وسط أمواج يضيع فيها أمهر السابحين , وإلى متاهات تغيب فيها الاشارات, وتنطفئ فيها الأضواء .

ما العمل ؟ .. ؟.. وآخر المبادرات ” البنود العنانية الستة ” التي توقفت عند البند الأول , وسط نيران تشتعل , ويغمر دخانها الأجواء .

إذا كان الحل السلمي لا يبدو قريبا ً , ولا قناعة به عند الأطراف المؤثرة , ولكل شروطه التي لا تقنع الآخر , ولا يرضخ لها … وغذا كان الحل العسكري خطوةً عسيرةً , تحتاج إلى ضوابط واشتراطات كما تهدد بطريق عسير يصعب الخروج منه …. يبقى الحل السياسي هو الحل الأبقى , ولكنه غير مطروح قبل تطبيق البنود العنانية الأخرى .

إن المسألة تبدو صعبة المنال , صعبة الاتفاق عليها , صعبة الحل .

إن الحل بيد النظام , ولكن أختار الطريق المدمر تحت شعار : ” أنا أو لا أحد ” . طريق الذي يملي الحلول ويطلب الاستجابة له منكرا ً على الآخرين حق التفكير والتدبير , أنه طريق العناد الذي يحتاج لمزيد من ضغط الأصدقاء الذين يدعمونه ويقفون إلى جانبه حتى لا يرتكب بشاعة تستدعي تدخل القوة عن طريق خصومه المؤثرين في المجتمع الدولي .

أما المعارضة فلا حول لها ولا قوة , ومع ذلك فهي المفتاح , وهي المغلاق ….. إلا أن مشكلة المعارضة تعارض نفسها , وتعاند الحقيقة أحيانا ً …. أنها كرجل أراد أن يغيظ نفسه فجدع أنفه .

لا هي مستقرة ولا هي موحدة ولا هي واضحة , ولا نسبة بين أحجام الرجال ,وحجم الحوادث المتواصلة ولا قدرة على الموقف المستقل , ضعف في الداخل إلى درجة الانسحاق , وضعف في الخارج إلى درجة الألحاق وفي الحالين إخفاق مستمر بعد إخفاق .

ما الذي يجدينا أن نضع رؤوسنا على كتف العالم ونبكي دماء شهدائنا السائلة , وحقوق أبنائنا وشعبنا الضائعة؟ ……. وماذا تنفع عبارات الألم وصرخات الموجوعين إذا كانت آذان المستمعين مثقوبة ؟!.

إن البكاء على أعتاب العرب دموع سائلة مع النيل , وهم موزعون مشغولون بهموم لهم لا يكادون ينتهون منها وضائعون لا وجهة لهم حتى ضاعت البوصلة منهم على أعتاب الأمم , وفي أروقة مجلس الأمن الذي لديه من الصبر الطويل ما يكفي عشرات الأجيال , تموت وتحيا , قبل أن يتنبه إلى أهمية قرار في وقته المناسب يوقف نزيف أطنان من الدماء , وقرون من أعمار المتأثرين بسببه .

ماذا نجد أمامنا ؟….

أننا نرى وطنا ً تستنزف طاقاته البشرية والمادية والفكرية,.. والمشكلة أنه استنزاف لا مع عدو خارجي , ولكنه بين أبناء الوطن نفسه , بين أطيافه وفسيفسائه التي تشكل موزييكاً عالميا ً مميزاً في الخلق والأبداع .

هذا الوطن الذي صار مضرب مثل في القتل والانتقام , والقادم أخطر إذا استمر الحال على ما هو عليه .

علينا للخروج من المأزق أن نفكر بحل , وبضمانات هذا الحل .

الحل سياسي …. إذن اتفقنا .

الضمانات …. لنقرأ في عناصرها :

1- الاستناد إلى المضلة العربية وهذا يحتاج إرادة عربية جامعة تتوقف على موقف المعارضة الموحد , والساعي إلى حل واقعي , وشامل , لا خاسر فيه ولا رابح إلا الشعب والوطن .

2- الاستناد إلى الإقليم المحيط , وإلى المؤثرين فيه (تركيا وإيران ) والمطلوب عربيا ً ومعارضتا ً أن نسعى للجمع بينهما على أسس تهدف لعودة السلام إلى ربوع الوطن , وضمان مصالح الطرفين فيه .

3- المجتمع الدولي .. وعلى رأسه القوتان الأعظم روسيا وأمريكا .

وأن للدور الروسي الشأن الأكبر لتأثيره على النظام , وقدرته على إدارة الموقف معه بحيث يستمر الوجود الروسي فلا ينقطع تأثيره , ولا يهمل أثره , ولا تنسى مآثره في دعمه لقضايا العرب المصيرية , ووقوفه إلى جانبهم في أعسر الأوقات إن كل واحد من هذه العناصر يقود إلى الشلل في الحركة إذا لم تستمر وتتقدم بوتيرة تتفاعل مع الحدث وتدفع به نحو الاقتراب من الهدف , أما الاتكال طويل المدى على نوايا المشاركين , أو ظروفهم , فأنه يحرق الأعصاب , كما أنه يمد في عمر القتل والخراب .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى