صفحات الناسمالك ونوس

في الطريق إلى بيروت.. خارج الكون/ مالك ونوس

غير لي السائق موعد الإنطلاق: «كلما كان سفرنا مبكراً كلما تيسر عبورنا على الحدود والحواجز والمدينة». في الرابعة فجراً انطلقنا، وفي نقطة الحدود اللبنانية خسرنا الوقت الذي ضحينا بنومنا من أجله. على غير عادته، بدا موظف الجمارك على ذلك الطرف فاقداً السيطرة على أعصابه. عرفنا أن سهره لم يكن السبب، أنباء المعارك وسط مدينة طرابلس وأصوات نيرانها، وخوف مسؤوليه من تسرب مقاتلين للتوزع على الطرفين لزيادة النار استعاراً هما ما جعلاه على تلك الحال.

الخشية من أن نُرَدَّ على أعقابنا حفظت برودةَ أعصابنا، وساهمت عبارات السائق الملطفة بتبريد أعصاب ذلك الشاب فكان حُنوه وعبورنا. نصحنا قبل المغادرة أن نعود باكراً قبل معاودة النيران الاشتعال. في الطريق كان عناصر الجيش اللبناني ينصحوننا بالسرعة والمرور «قبل الضو». لماذا الخوف من الضوء، لماذا يخفت صوت الطلقات بخفوت الضوء. هل هي أوامر الزعماء على الطرفين، يريدون هدنةً للنوم أواخر الليل وبعض النهار؟

حاويات القمامة، هي ما أغلق الطريق المؤدي إلى وسط المدينة. بعد هذا الحاجز أنت تغامر بروحك أو بإشعال النار إن عبرت راجلاً. كان الطريق الملتف فرصةً لنا للإطلالة على قاع المدينة ومآسي أبناء أطرافها. على جانب طريقٍ ترابي ضيق ركن سائقٌ سيارته بانتظار مرور سيارتنا التي كانت تتبع رتلاً بدا أشبه بقافلة. ابتسم سائق سيارتنا لسائق السيارة المركونة بعد تلقيه عبارات خَمَّنا أنها بذيئة. لشدة إصرارنا أبلغنا أنه وجه له شتيمةً، تعجبنا عندها لتصرف سائقنا الذي برره بالسؤال: «وماذا أفعل؟ هل أردها له وأتلقى ما ليس بالحسبان منه ومن غيره؟» كان رده تلخيصاً لدرجة المهانة التي وصل إليها السوريون أينما ولّوا وجوههم.

غادَرَتنا مشاهد البؤس الوافر على الطرقات وفي الأحياء عند مغادرتنا المدينة. ساعد بزوغ الشمس والموسيقى الرقيقة التي تنطلق من المذياع على فراقها. لكن الأمر لم يطل، فسرعان ما عادت تلك المشاهد حين شارفنا على الوصول إلى بيروت. كان مسار الطريق اللطيف والنظيف وجمال الطبيعة التي تحاذيه والإعلانات الباذخة التي تحتل معظم جوانبه صادمةً. إنها تجبرك على المقارنة بين ما تركتَ للتو وبين ما يستقبلك من ثراء.

لا تظن وأنت تستعرض القرى والأبنية والشركات والمحال التجارية ذات الواجهات المغرية والجاذبة إلا وكأنك قد وقعتَ على أرض أخرى أو على كوكب آخر. مشهد مغاير وغريب عن المشهد الذي غادرته منذ أقل من ساعة. تستيقظ بيروت بهدوء، هدوء ستفقده قريباً حين تبدأ عجلة العمل والنقل والبيع والشراء وحين تنطلق روائح الطعام من المطاعم التي تخشى الاقتراب منها. هي حياة أخرى تختلف عن حياة أهل تلك المدينة المبتلية بفقر شبانها وعطالتهم وتوزعهم على المتاريس. تتصورهم يعيشون عبثاً أو فقراً يدفعهم للتسلية بالتراشق بالرصاص الذي إن أحدث شيئاً فلن يكون سوى زيادةً في مأساتهم اليومية. فقر يجعلهم غرباء في وطنهم وغرباء عن مشاهد الثراء في أحيائهم أو أحياء المدن الأخرى.

في طريق العودة عند منتصف النهار، وعلى الطريق الملتف ذاته، رأينا أطفالاً وفتية يحملون مقاليع بأيديهم لم نعلم وظيفتها. كانت وجوههم معفَّرة بالغبار الذي يخيم على المكان ويحجب الرؤية. تعجبنا لوجودهم هناك، فمقاعد الدراسة هي أولى بوجودهم من الطرقات المُغبرّة. سرعان ما سيكبر هؤلاء الفتية ويستبدلون المقاليع بالرشاشات حين يقودهم يأسهم من إيجاد فرص عمل كريمة إلى الوقوع بين أيادي زعماء يساعدونهم على الجهل والفقر ليرسلوهم إلى المتاريس، مقابل مدهم بفتات طعام، لا يفعل شيئاً سوى أنه يقيهم الجوع.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى