صفحات مميزة

في القضاء على المظاهر السلميّة للثورة السوريّة: كسر الأصابع وقلع الحناجر وذبح بالسكاكين

 

سوريا ـ خاص “نوافذ”

تغيّرت أشياء كثيرة في حياة السورييّن، منذ انطلاق الثورة فيها في 15/3/2011، لا بل تغيّرت كلّ مناحي حياتهم؛ من خلال انهيار حاجز الخوف في دواخلهم، (وانهيار حياتهم ومدنهم في المقابل)، وكذلك انهيار الخوف في جيناتهم الوراثيّة؛ التي تدخل فيها سابقاً الرئيس الراحل حافظ الأسد من خلال نظريّته الأمنيّة المبتكرة؛ حيث أوجد في كلّ بيت سوريّ ثلاث شخصيات: الفاسد والمخبر والخائف. لأنّ الفاسد والمخبر، اللذين استحدثا، وتمّ تطويرهما، لعبادة رأس السلطة، والافتقار إلى الأخلاق والإنسانيّة، سيُشكلان حماة للنظام، وجيشاً جاهزاً لدعم استمراره على أساس المصلحة والمنفعة المشتركة. لدرجة أنّ تطوّر الفساد في سوريا جعل منظومة الفساد نفسها تضع قوانينها المعطلة لكلّ القوانين الأخرى، التي جعلها النظام شكليّة لا أكثر، إلا عندما يرى مصلحته، ومصلحة أزلامه، في إعادة الاعتبار لها. بينما الخائف، وفق تلك النظريّة، سيتحوّل، شاء أم أبى، ومهما طال الزمن، إلى طيف لا يمكن له إلا التفكير في العيش ولقمة العيش، ولا يمكن له أن يؤثر في استمراريّة هذا النظام، من عدم استمراريته، إلى الأبد.

الثورة يقودها الخائفون والمسحوقون

وهذا بالضبط ما جعل النظام يفقد صوابه عندما تجرّأ الخائفون على مناصرة الثورة المصريّة، ومن بعدها الليبيّة، وتبني شعاراتها؛ فقام باعتقال الأطفال، الذين كتبوا تلك الشعارات على سبّورات مدارسهم وحيطانها، وقلع أظافرهم وطردهم من المدارس، كي لا يفكر الآباء “الخائفون” بالمطالبة بأيّ شيء. لكن “الخائفين على البلد” لم يتراجعوا عن شجاعتهم؛ مطالبين بإطلاق سراح أطفالهم، والكفّ عن تهميشهم وتهميش مطالبهم في الحياة بكرامة. فقام العميد عاطف نجيب، رئيس فرع الأمن السياسيّ في محافظة درعا، وهو ابن خالة الرئيس بشار الأسد، بتهديد آباء الأطفال المعتقلين بأنه على استعداد لقتل أطفالهم، وإنجاب أطفال جدد من زوجاتهم بنفسه! في دليل كبير على وقاحة ممثلي النظام، ووقاحة بنية النظام نفسه، في الاستعداد لانتهاك أعراض المواطنات على مرأى من أزواجهم أو ذويهم أو أطفالهم. ولم يتراجع شباب حوران عن الدفاع عن كرامتهم، بل ازدادت أعداد المتظاهرين والمتضامنين معهم من القرى والمدن التابعة لدرعا إداريّاً. ففكر النظام، الذي لم يعتد على تحدّيه من الخارج فكيف من الداخل، بزيادة جرعة العنف من خلال قيام عناصر الأمن بخلع الحجاب، في الساحة العامة، عن رؤوس النسوة المطالبات بإطلاق سراح أطفالهن المعتقلين، الذين تمّ اعتقالهم بتاريخ 7/3/2011، وبمحاكمة عاطف نجيب على أفعاله التي تشكل جرائم يُعاقب عليها القانون المغيّب بالنسبة لأزلام النظام، في تلك المنطقة المحافظة أصلاً، والاعتداء عليهنّ بالضرب، ما أدّى إلى إعلان العصيان المدنيّ من جانب الذين تخلوا عن خوفهم نهائيّاً. وبزيادة جرعة العنف من قبل النظام؛ بقتل تسعة متظاهرين، في مدينة درعا، اشتعلت الثورة في كلّ المدن والقرى التابعة لها؛ ودعت جهاراً إلى إسقاط النظام هذه المرّة، ومحاكمة الرئيس نفسه على أفعال قريبه المتنفذ، رغم أنها كانت، في البداية، تطلب من الرئيس التدخل شخصيّاً لوقف أعمال العنف ضدّ أهالي المدينة، فأصبح شرط إقالة العميد عاطف نجيب من الماضي البعيد، وشرط إسقاط الأسد ومحاكمته هي مطلب الثوّار. وتساءل مفكرو النظام، وعمال النظريّة الأمنيّة لحافظ الأسد، وسيظلون يتساءلون: متى أصبح لهؤلاء الخائفين والجبناء والمسحوقين والعبيد صوت وقوّة وجرأة؟

وبحصار درعا كلها، من قبل الجيش النظاميّ والشبّيحة والأمن، وزيادة أعمال القتل والاعتقالات والتنكيل، ومنع الأدوية والغذاء وحليب الأطفال، وقطع المياه والكهرباء عن كامل المدينة ولمدة أسابيع، انتقلت الثورة إلى البقاع الأخرى، مثل حمص وإدلب وريف دمشق… تضامناً مع أبناء حوران.

لا بدّ من تفصيل هنا للدلالة على كذب النظام وحماية أزلامه، الذين يُنفذون أوامر النظام ولا يتصرّفون من تلقاء أنفسهم؛ فقد تمّ تشكيل لجنة قضائيّة لملاحقة مَن تسبّب بأحداث درعا، والتعويض على أهاليها، والتي لم تنه أعمالها بعد مرور ما يقارب العام والنصف على تشكيلها، والتي صرّحت بأنه تمّ توقيف العميد عاطف نجيب، بعد إقالته من منصبه، ووضعه في السجن، وهذا كلام لا صحّة له؛ فالعميد عاطف نجيب جاء إلى القصر العدليّ بدمشق، وجلس في مكتب المحامي العام الأول هناك!، وجاء إليه قاضي التحقيق الأول وأخذ أقواله ثم أقفل المحضر نهائيّاً في اليوم ذاته، عائداً إلى القصر الجمهوريّ معزّزاً مكرّماً! ولم يتم لا توقيفه ولا أيّ شيء من هذا القبيل.

دم ثقيل يُراق وخفة دم سلميّ في التظاهرات

ورغم الدم الكثير الذي سال في كلّ بيت سوريّ، وبالتالي سال الحزن والفقد واليتم والنزوح والترمّل والحقد وسوء الفهم مع كلّ العالم…، كان لا بدّ من الالتفات إلى خفة الدم في مواجهة الوحشيّة التي انفلت عقالها هكذا، وسفكت كلّ هذا الدّم.

خفة الدم هذه ظهرت، أول ما ظهرت كارتباط في الثورة، في اللافتات التي كان يحملها الشباب الشجاع، من خلال السخرية من النظام وممثليه وفساده وديكتاتوريّته، ونشر الفكر الحضاريّ في مواجهة كلّ أشكال القوّة والغطرسة والعنف غير المبرّر؛ فاشتهرت لافتات كفرنبل وعامودا ودير الزور وحمص… على أيدي وبأفكار شبّان مهرة ومبدعين، تخلصوا من التشوّهات التي دأب النظام الاستبداديّ على ضخها وخلقها في دماء وجينات الشعب السوريّ، كلّ الشعب السوريّ. وكان يتمّ اعتقال الشبّان الذين كتبوا، أو رسموا، تلك اللافتات واللوحات، ويتمّ تعذيبهم بكسر أصابع أيديهم أولاً، كانتقام من فكرة التعبير بالكلمات والرسم، وحريّة التعبير نفسها. ومنهم مَن لقي حتفه، ومنهم من تمّ اختياره لتوجيه رسالة للآخرين، في أنّ النظام لا يُقيم وزناً حتى للمعروفين منهم على المستوى العالمي؛ كفنان الكاريكاتير الشهير علي فرزات الذي كسروا أصابع يديه بوحشيّة، ورموه على قارعة الطريق بعد جولة من الضرب المبرّح والمهين من قبل الأمن والشبّيحة.

نماذج من اللافتات والكتابات

كانت اللافتات تتطوّر مع تطوّر الأحداث، ومع زيادة آلة القتل في وحشيّتها؛ فتعبير “ارحل” صار “لا ترحل … جايينك”، مع زيادة تعنت الرئيس في عدم التنحيّ عن الكرسيّ الذي يعضّ عليه، بمساعدة الدول التي ستتخلّى عنه طال الزمن أم قصر، بأسنانه وأسنان نظريّة والده التي لا يُصدّق بأنّ مفاعيلها قد انتهت.

كتب المتظاهرون على لافتة في دير الزور: “تضع الفيفا أربعة حكام لمراقبة /22/ لاعباً يتمتعون بالأخلاق الرياضيّة. بينما تضع الأمم المتحدة /30/ مراقباً فقط لمراقبة جيش الأسد وأمنه وشبّيحته الذين تنعدم عندهم الأخلاق والإنسانيّة”.

أو أن تكون اللافتة موجّهة للداخل والمجتمع الدوليّ؛ مثل:”نعم. إنّ ما يحدث في سوريا هو مؤامرة، ولكنها مؤامرة ضد الشعب السوريّ، ورأس حربة المؤامرة هو بشّار الأسد”. أو “ما يحصل (في سوريّا) ليس أزمة؛ (بل) هو حلّ لأزمة عمرها أربعون عاماً”. أو “إلى الخائفين: نحن لسنا دعاة حرب… نحن دعاة بناء الدولة المدنيّة الديموقراطيّة لكلّ السورييّن”.

أو مديحاً للحريّة من خلال مدح المتظاهرات، اللواتي تمّ اعتقال الكثيرات منهن، والتنكيل بهنّ حتى داخل أماكن التوقيف؛ بوضعهن في أماكن توقيف الداعرات والمجرمات الجنائيّات، وطردهنّ من الوظائف والبلد، كاللافتة التي كتب عليها: “سحر الحريّة في أنها قامت على صيغة المؤنث”.

كما أن هناك العديد من اللافتات الساخرة من النظام والمجتمع الدولي؛ مثل “نطالب بدخول العصابات المسلحة لحمايتنا من الجيش السوري”. أو “نطالب بتدخل خارجي سافر”. أو “سوريا خلصت… والأزمة بخير”. أو “نطالب بزيادة عدد الدبابات في كفرنبل للتخفيف عن حمص المنكوبة”. أو “هل حماية الأقليات يعني إبادة الأكثريّة ؟”. أو “بابا وماما استشهدا…. رباب وباسم في المعتقلات”. أو “نطالب بمراقبين لمراقبة المراقبين وهم يراقبون”. أو “اعلم يا بشار أن إعدامك حقيقة علميّة مثبتة”. وهي لافتات قليلة من إبداعات شباب كفرنبل “المحتلة”.

وأخيراً نجد لافتة معبّرة جداً عن زيادة أعمال القتل والقصف ، وتحوّل القتلى إلى مجرّد أرقام فقط، وعن تجاهل المجتمع الدوليّ لما يجري في سوريّا؛ وهي اللافتة التي كتب عليها:” خبر عادي: دير الزور تقصف”.

الأغاني وسميح شقير ويا حيف

رافق ذلك الإبداع المكتوب إبداع شعريّ وصوتيّ تزايد مع زيادة العنف ضد التظاهرات السلمية، والمتظاهرين السلمييّن. فظهرت الأغاني التي كان ينشدها شبّان؛ صاروا الآن في عداد الموتى، أو المعتقلين، أو النازحين، أو المتخفين عن الأنظار خوف التصفية الجسديّة. وكانت أولى تلك الأغاني أغنية “يا حيف” التي أنشدها المطرب السوريّ المعروف بأغانيه النضاليّة سميح شقير، لتوضيح الصورة الحقيقيّة لعنف النظام ضد أهالي درعا، والتي تقول:”يا حيف. زخّ رصاص على الناس العزّل يا حيف. وأطفال بعمر الورد تعتقلن كيف؟ كيف. وانت ابن بلادي تقتل بولادي وظهرك للعادي وعليّ هاجم بالسيف. يا حيف يا حيف. وهذا اللي صاير يا حيف. وبدرعا ويا يُمه ويا حيف”. ثم تكمل الأغنية:” سمعت هالشباب يُمه الحريّة ع الباب يُمه، طلعوا يهتفولا. وشافوا البواريد يُمه قالوا إخوتنا هنن، ومش رح يضربونا. ضربونا يُمه بالرصاص الحيّ، ومتنا، بإيد إخوتنا، باسم أمن الوطن، واحنا مين احنا؟ وافتح التاريخ، واقرا صفحتنا، صفحتنا. مش تاري السجّان يُمه كلمة حريّة وحدي هزتلو أركانوا. أصبح كالملسوع يُمه يصلينا بنيرانو…”. والتي تنتهي بجملة صارت صيحة لكلّ السورييّن الثائرين على نظام الاستبداد: “واحنا الي قلنا إللي بيقتل شعبو خاين. يكون مين كاين”.

كسر الأصابع وقلع الحناجر وذبح بالسكاكين

هناك مغنون كثر لمع نجمهم بسبب موقفهم الشجّاع في الوقوف إلى جانب مطالب الثورة، وليس بالضرورة بسبب جمال صوتهم؛ بل أن جمال صوتهم كان في موقفهم الشجّاع منذ بداية الثورة. كما أنّ الأغنيات التي صدحوا بها، بحناجرهم المهدّدة بالاقتلاع، لم تبق خاصّة بمكان معيّن؛ بل اشتهرت وذهبت لتعانق حناجر زملاء لهم لم يلتقوا بهم، بل يشبهونهم، على الأقل، في الموقف والمصير.

فاشتهرت أغاني الشهيد “إبراهيم قاشوش”؛ الذي ألقى الأمن القبض عليه، وقام باقتلاع حنجرته، وتعليقها على مدخل مدينة حماه، ومن ثمّ رموا جثته من على أحد جسور نهر العاصي 6/7/2011، بسبب مناداته بالحريّة وتطاوله على شخصيّة الأسد نفسها بوصفه بالقاتل والمندس والغبي والخائن.

إبراهيم قاشوش الذي لم يعمل في فرقة “العراضة”، التي اشتهرت بها عائلته في مدينة حماه، تحوّل فجأة إلى مغنٍ للثورة، عندما اقتبس مقدمة إحدى أشهر أغانيه، “يللا ارحل يا بشار”، من فم أحد عمّال النظافة في شوارع حماه، عندما كان يدندن بتلك الجملة وهو يكنس الشوارع، وحوّلها إلى أغنية طويلة، دأب الثوار السوريون، صغارها وكبارها، وفي كلّ المدن السوريّة على ترديدها. وتحوّل القاشوش نفسه إلى رمز من رموز الثورة؛ جعل شبّيحة الأسد يبحثون عنه طويلاً لقلع حنجرته وتعليقها على مدخل مدينته، كما وعدوا بذلك قائدهم المفدّى.

شخصيّة القاشوش تلك أوحت للموسيقي السوريّ الشهير “مالك الجندلي” لتأليف سيمفونيّة بعنوان “سيمفونيّة القاشوش”. وهذا ما حوّل الجندلي نفسه، المقيم في مدينة نيويورك، من أفضل عازف بيانو سوريّ تفتخر به، وتذيع له، القنوات الحكوميّة، والقنوات السوريّة الخاصة كقناة “الدنيا” المدعومة من النظام،والمملوكة لرجل الأعمال “محمد حمشو”، إلى خائن كبير للوطن! ودفع الشبّيحة إلى الاعتداء على والديه، المقيمين في مدينة حمص، وأدّى ذلك إلى كسور وجروح ورضوض عديدة، مع تكسير لكامل أسنان والدته الطاعنة في السن!

القتل والحرق والمكافآت العالية

ومن كثرة شهرة إبراهيم القاشوش في كلّ المحافظات السوريّة، إضافة لصفاته الشخصيّة، لقب الكثير من المنشدين في التظاهرات بالقاشوش، ومنهم الطفل مصطفى جركس (أبو جعفر)، من مدينة دير الزور، الذي لقب بقاشوش الدير. والذي كان يختار مدرسة معيّنة في كلّ يوم، ويقفز من فوق أسوارها؛ ليُحرّض الطلاب على الخروج في التظاهرات، من أجل إسقاط الأسد. اشتهر الطفل أبو جعفر، البالغ من العمر /12/ عاماً، من خلال تحدّيه للأمن والشبّيحة، بالصعود على أكتاف زملائه، وترديد الهتافات والأغنيّات التي تمجّد الحريّة، وتنادي بإسقاط النظام، حتى لو تمّ تهديده بالقتل. وقد تمّت ملاحقة الطفل أبو جعفر في كلّ مكان، واستطاع الأمن إلقاء القبض عليه. وبعد فقدان أثره لمدة شهر في أقبية الأمن، تمّ العثور على جثته بتاريخ 6/3/2012 وقد تمّ التمثيل بها بشكل وحشيّ غريب؛ فقد قلعت عيناه، وقطّعت أعضاؤه، التي تمّ حرقها في النهاية. وكأنّ عقوبة مَن يتجرّأ على الغناء، الغناء فقط، ضد النظام هي الموت والتنكيل لا محالة.

كذلك كان هناك قاشوش دوما وحرستا (محمد أيمن دحدوح) الذي تمّ قتله من قِبَل الأمن بتاريخ 5/2/2012. من دير الزور أيضاً يُعتبر المغني “أسد الفرات”، من أكثر الشخصيّات التي يُريد شبّيحة النظام القبض عليه، مقابل مكافأة مالية بملايين الليرات لمن يساعد في القبض عليه، أوتصفيته جسديّاً؛ بعد أن اشتهر من خلال أغنيته الشهيرة “صُب من دمّك للحريّة”.

عبد الباسط الساروت (20 عاماً) تحوّل من “حارس مرمى” لمنتخب شباب سوريّا لكرة القدم، إلى “مشجّع” كبير لزملائه المتظاهرين، بالظهور علناً في كلّ التظاهرات، والمشافي الميدانيّة، وبرفقة الأطفال النازحين، وفرق الإغاثة، وحتى مع المقاتلين، وهو من أكثر المطلوبين في مدينته حمص؛ لدرجة أنه تمّ وضع مكافأة ماليّة مقدارها ثلاثة ملايين ليرة سوريّة، لمن يمكن الأمن من إلقاء القبض عليه، وكذلك لمن يقتله؛ حيث اشتهر بخطاباته المرتجلة، متوعّداً الأسد، ونظامه، بأسوأ مصير. وقد اشتهر بترديد الكثير من الأغاني التي غناها منشدو الثورة السوريّة، ومنها أغنيّة “جنة جنّة” العراقيّة الأصل، وكذلك أغنية “حانن للحريّة حانن، يا شعب ببيتو مش آمن”، التي غناها مع فدوى سليمان.

أمّا أنس الشغري، من مدينة بانياس التابعة لطرطوس، فما زال مصيره مجهولاً لحدّ الآن، بعد اعتقاله من قبل الأمن بتاريخ 14/5/2011، حيث أفاد العديد من النشطاء والمهتمين بقضية الناشط أنس الشغري بان النظام السوري يسعى لاستصدار حكم الاعدام بحقه، على أساس العديد من التهم الموجهة اليه كاضعاف الشعور القومي والنيل من هيبة الدولة وغيرها من التهم التي ليس لها أساساً قانونياً.

ومن عداد المنشدين الذين لقوا حتفهم، على أيدي قوّات الأمن، الشهيد محمد طارق الأسود” (مواليد 1989)، الذي اشتهر بأغنية “أصابع نصر”، واستشهد بعد إصابته بقذيفة هاون في حيّ القرابيص في حمص بتاريخ 24/2/2012.

وقلع الحنجرة، أو قنص المتظاهر السلميّ في حنجرته، لم يكن يخصّ المنشدين فقط، بل كان مصير منظمي وقادة التظاهرات السلميّة، الذين دأب النظام على التخلص منهم واحداً تلو الآخر؛ إما بالقتل أو الاعتقال أو التهجير، كي تنتهي تلك التظاهرات السلميّة، ومظاهرها الحضاريّة، التي استقطبت، جمعة بعد أخرى، ويوماً بعد آخر، الكثير والكثير من الشباب الثائر ضد نظام القمع. فبات الشغل الشاغل لأزلام النظام التنكيل بالمتظاهرين السلمييّن، والدعس على ظهورهم وضربهم في الاعتصامات، كما حدثت في ساحات المدن والجامعات السوريّة المختلفة. فالاعتداء على المتظاهرين تكرّر كثيراً، كانتقام أيضاً من الصوت، مجرّد الصوت، الذي ينادي بالحريّة؛ كما حصل مع المتظاهر السلمي جداً غياث مطر ابن الرابعة والعشرين؛ الذي كان يمنع أيّ متظاهر من الشتم أو الهتاف بما هو طائفيّ أو انتقاميّ، وحتى منع شتم الرئيس في شخصه وعرضه، فتمّ القبض عليه وتعذيبه بشكل شديد، ثمّ تسليم جثته لأهله، بتاريخ 6/9/2011، وهي مقتلعة الحنجرة والعينين. وكان نصيب الصحافيّ الشاب “مصعب العودة الله” مشابهاً؛ عندما ذبحوه بالسكين في وضح النهار على مرأى من ذويه يوم 22/8/2012! لمجرّد أنه ابن درعا، ويكتب على مدوّنته الشخصيّة ما هو مناصر لأفكار الثورة السوريّة.

التبوّل على مراييل طلبة الطب البشري

في تشدّد النظام تجاه التظاهرات السلميّة، والمتظاهرين السلمييّن، الذين كانوا، في كلّ التظاهرات، يُصفقون بأيديهم وهي مرفوعة؛ كدليل على أنهم لا يحملون السلاح، وبأنهم عزّل سوى من الكرامة والكبرياء، كان يبحث النظام عن كيفية استبعاد المظاهر الحضاريّة عن الثورة السوريّة في قيامها على السلميّة؛ وذلك بإجبار الشبّان على التسلح؛ في البداية لحماية التظاهرات والمتظاهرين من شبّيحة النظام وعناصر أمنه، وفي النهاية لمواجهة الجيش الذي خان عهده بانحيازه الى حماية النظام، وهو الفرع، وليس الدولة، أو الشعب، وهو الأصل، وذلك بالاعتداء على الشعب بالرصاص والمدفعيّة الثقيلة والطائرات! كي تصحّ نظريّة النظام بوجود مؤامرة كونيّة ضده، وبوجود عصابات مسلحة إرهابيّة وتخريبيّة تريد إسقاط الوطن وليس الطاغية، في الحرب الإعلاميّة الشرسة والسّامة التي يتمسّك بها حتى الآن.

وبسبب الاعتصامات المتكرّرة لطلبة الكليّات في جامعة حلب، والمدينة الجامعيّة فيها، كما في باقي الجامعات السوريّة، وبسب أنه من غير المعقول إشاعة أنّ طلاب الجامعة مسلحون أو إرهابيّون؛ كونهم يخضعون للتفتيش اليومي في الكليّات ومداخل المدينة الجامعيّة من قبل مفارز الأمن، لتبرير اقتحامها من الجيش، إلا أنه تمّ اقتحامها في النهاية، من قبل الأمن وشبّيحة النظام، والتنكيل بالطلاب والطالبات، وسحلهم في الشوارع وضربهم، وكذلك ضرب أساتذة الجامعة؛ ممّن رفضوا الاعتداء على طلابهم، ورمي جثة أحد طلاب المدينة الجامعيّة من غرفته في الطابق الخامس، ما أدّى إلى مقتله على الفور. وفي النهاية توقيف الدراسة في جامعة حلب وإغلاقها، وكذلك إخلاء الطلاب من سكنهم في المدينة الجامعيّة!

ولم يعد غريباً، بعد مرور ما يقارب من عامين، ومقتل أكثر من ستين ألف مواطن سوريّ على يد قوّات الجيش والأمن والشبّيحة، والرقم يفوق ذلك برأينا بكثير، واكتشاف المجازر الوحشيّة البشعة، وضرب المدن بالصواريخ والمدفعيّة الثقيلة والطائرات والغازات السّامة، والاستعانة بخبراء روس أو مقاتلين إيرانييّن لذبح المدنييّن من النساء والأطفال والشيوخ، وحرقهم…، أن نتحدّث عن غرابة أن يهجم الأمن والشبّيحة على اعتصام لطلاب الطبّ أمام كليّتهم في حلب؛ حيث قام الأمن بالهجوم عليهم، وهم يحملون السلاح في حرم الكليّة، لإنهاء الاعتصام. وقام الشبّيحة بسحب “المراييل” البيضاء الخاصّة بالطلاب والطالبات والتبوّل عليها في وضح النهار، أمام أعين الطالبات والدكاترة! ثمّ قاموا بضرب الطلاب والطالبات داخل الحرم الجامعي، واقتادوا بعضهم لمراكز الاعتقال.

الملاكم غياث طيفور وطلاب هندسة الميكانيك

تكرّر الوضع في كليّة الميكانيك في جامعة حلب؛ ولكن هذه المرّة تمّ الاعتداء على الطلاب في مدرّج الكليّة أثناء المحاضرات؛ حيث اصطحب بطل الملاكمة الآسيويّ السوريّ غياث طيفور، الذي يملك مركزاً تدريبياً في لعبة الملاكمة، /120/ ملاكماً من مركزه التدريبيّ، مسلحين بالهراوات وأدوات القتال الخاصّة للنيشاكو، وبوكسات حديد وسكاكين، إلى كليّة الميكانيك في جامعة حلب. ثمّ دخلوا إلى أحد مدرّجات الكليّة أثناء إلقاء محاضرة، وطلب، “البطل” غياث طيفور، من الدكتور المدرّس مغادرة القاعة، وعندما رفض المغادرة، وطلب منهم هم المغادرة، قاموا بضربه على وجهه، ثم سحبه من ياقته والرمي به خارج المدرّج. ثم طلبوا من الطالبات مغادرة المكان، وأغلقوا باب المدرّج ببعض المقاعد الدراسيّة، واشتبكوا مع الطلاب. أدّى هذا الاعتداء الوحشيّ إلى كسور متفرّقة في أجساد كلّ الطلاب، مع جروح كبيرة، وفقأت عيون ثلاثة طلاب! وعندما اتصلت إحدى المسؤولات في الكليّة بأمن الجامعة، جاء الأمن بعد فوات الأمن ليقوم بإسعاف الطلاب، ولم يقم باعتقال أحد من جماعة البطل الوطنيّ في الملاكمة، حتى بعد أن اعتدوا على تلك المسؤولة نفسها بالضرب، وأمام رجال الأمن، عندما عرفوا بأنها هي التي اتصلت بأمن الجامعة، بل خرجوا وهم يهتفون بحياة القادة الذي “سيتبرّز” على الحريّة، ومحتفلين بتكسير ألواح الزجاج الكبيرة المنتشرة في الكليّة.

كانت هذه الحادثة هي السبب في تنفيذ الجيش الحرّ تهديداته للملاكم طيفور، بسبب ذهابه إلى الكثير من التظاهرات والاعتداء بالضرب المبرّح، مع ملاكمي مركزه التدريبيّ الخاص، المتكرّر على المتظاهرين، أو مساعدة الأمن في القبض عليهم، فقام عناصر من الجيش الحرّ بقتل طيفور ، بتاريخ 11/3/2012، وهو متوقف بسيّارته الخاصّة في ساحة الجامعة الخارجيّة، كي يكون عبرة لجميع من يحاول التطاول على الطلبة في جامعة حلب.

تكرّر أمر الاعتداء على الطلاب المعتصمين في كثير من الجامعات السوريّة؛ ومنها اعتصام طلبة كليّة الاقتصاد في دير الزور، حيث قفز عدد من عناصر الجيش من على سور الكليّة، كونها ملاصقة لموقع تمركزهم في معسكر الطلائع؛ وقاموا بتفريق المعتصمين بالاعتداء على الطلاب والطالبات بالضرب المبرّح، في اللحظة التي كان المعتصمون يردّدون النشيد الوطني، الذي يوجّه التحيّة لحماة الديار! وفي اليوم التالي حدث الأمر نفسه عندما نفذ الطلاب من جديد اعتصامهم أمام مدخل الكليّة، ولكن هذه المرّة جاءت قوّة من الأمن العسكريّ، بقيادة اللواء جامع جامع، وعندما طلب منهم عميد الكليّة الدكتور والاقتصادي المعروف “ياسين خليفة” عدم الدخول إلى حرم الجامعة بالسلاح، كما تنصّ على ذلك القوانين، قام أحد العناصر من الأمن العسكريّ، وهو برتبة رقيب أوّل، بصفع عميد الكليّة على وجهه ورماه أرضاً أمام جميع الطلاب والطالبات والمدرّسين!

بعد مرور ما يُقارب العامين من اندلاع الثورة السوريّة، ورغم قلع حناجر المطالبين بالحريّة، وقتلهم واعتقالهم وتهجيرهم، للقضاء على عدوّ العسكر والديكتاتوريّة، ما زالت أصواتهم عالية وجميلة وتنعش قلب هذه الأرض الخراب.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى