صفحات الناس

في القهر المقارَن/ أسامة نصّار

 

 

اللوحة المرفقة من رسم ديمة نشاوي، وقد رُسِمَت خصيصاً لهذا النص

سبق أن حوصرت مدن ومناطق كثيرة في سوريا وفي العالم. وهناك مناطق محاصرة عديدة حتى الآن. وليست معلومة جديدة أن نظام أسد استخدم الحصار كأحد أكثر أسلحته فاعليّة ضدّ أي منطقة تخرج عن سيطرته. والمقصود بالخروج عن السيطرة هنا هو أن أجهزة الاعتقال التابعة للنظام فقدت الوصول الفيزيائي (المباشر) إلى سكان المنطقة. فقط هذا؛ فنيران النظام يمكنها أن تطال أي منطقة من مناطق المعارضة (ومناطق النظام طبعاً)، وكذلك طيرانه الحربي. وحتماً: سلاحه الكيماوي! ومن نافل القول أيضاً اعتماد النظام على سلاح الاعتقال والتعذيب للفتك بمعارضيه، كأداة أخرى من أدوات القهر المستحضَرة من عصور بائدة.

لكن الوضع في الغوطة مختلف. الحصار هنا لا يشبه حصار غزة أو لينينغراد أو فيينا أو حصار قطر! ومع عدم الاستخفاف بأي معاناة -حالية أو سابقة- لأي مظلومين في العالم، تبدو كلمة «حصار» غير كافية لتوصيف ما يجري في الغوطة الشرقية.

هي ليست مجرد منطقة محاصرة، وإنما الغوطة الشرقية أشبه بمعسكر اعتقال concentration camp؛ معتقل كبير يحوي نصف مليون إنسان!

معسكر اعتقال مهيأ لإبادته بالغاز أو بالمحرقة. الغوطة -كما مناطق أخرى- ضُرِبَت بالغاز الكيماوي المحرّم عدة مرات، كانت أسوؤها -حتى الآن- ضربة صيف 2013، وقريباً من الغوطة أنشأ النظام فرناً داخل معتقل صيدنايا، يحرق فيه من لم يمت بالتعذيب أو من الجوع والبرد أو غياب الطبابة، أو أسباب الموت غير التقليدية الأخرى التي تبتكرها عقولٌ يقتصر إبداعها على صناعة الموت والبشاعة.

شاعَ تشبيه الحصار بالسجن، وكثيراً ما يجد المعتقلون السابقون فوائد لمهارات عملية ونفسية تعلموها في المعتقل، فيتعاملون مع مصاعب الحصار كأصحاب خبرة. وقد يحدث العكس أيضاً؛ أن تزيد هذه (الخبرة) في مصيبة صاحبها، خاصة إذا كان مَن سجنه بالأمس هو نفسه مَن يحاصره اليوم.

في المعتقل، أنت داخل الزنزانة (الجماعية). إن جاءك السجّان بالطعام -أيِّ طعام- أكلت، وإن لم يفعل يلويك الجوع ربما حتى الموت. قد يأتيك الطعام ولكن لا يأتيك الدواء، أو يأتي دواءٌ ليس لحالتك، أو منتهي الصلاحيّة. لا تعرف متى يُطلَقُ سراحك أو تُخفّف ظروفه، ولا تعرف ما الذي يمكنك فعله، أو الكفّ عن فعله، ليتغير وضعك.

تجد نفسك تستخدم أدوات لم يخطر في بالك قبلاً أنها موجودة، فضلاً عن أنك ستستخدمها. تدخل عالماً عجائبياً من الاختراعات والبدائل؛ شبكات كهرباء ومياه بديلة، مشفى بديل، أدوية بديلة، مواصلات بديلة، وقود بديل، طاقة بديلة، أغذية بديلة، تربة زراعية بديلة، سكن بديل، عائلة بديلة، رغيف بديل…

في الحصار كما في المعتقل، يضيق قاموس المفردات ويُختزَل، لتكفي مجموعة من الكلمات والمصطلحات التي يتمّ نحت معظمها محليّاً، أو تتكرر مفردات كانت موجودة واكتسبت معانٍ محلية جديدة.

يحلم المحاصرون بفتح الطريق مثل ما يحلم المعتقلون بتبييض السجون أو بصدور عفو.

يعيش المحاصرون برعب القصف، ورعبُ المعتقلين هو الطلب للتحقيق.

وهكذا:

مصاب = عائد من التحقيق

مخطوف = كان في زنزانتنا ولا نعرف مصيره

صوت غارة الطائرة = طرق مزلاج باب الزنزانة الحديدي

هدنة = تنفّس

تخيّل باقي المُقابِلَات…

في الحصار: حطب – كبّاس – أمبيرات – 12 فولت – شظايا – المنفوش – نفق – غارة – شهيد – ونّانة – أمني – إغاثة – تحت الأنقاض…

في المعتقل: سفرة – منفردة – تفلاية – كريزا – استعصاء – أبو حيدر – قصعة – سجّان – شاويش – تسييف – شرّاقة – دولاب – تفسير المنامات…

في المعتقل وفي الغوطة الشرقية، غير مسموح لك باستقبال زيارات. أهلك وأحبابك على بعد أمتار منك، لكن قد تمرّ سنوات طويلة دون أن تراهم أو يروك.

لو كنتَ طالباً، يتخرجُ زملاؤك من جامعاتهم وقد يتابعون دراساتهم العليا، بينما تستمرّ في اجترار الحسرة وذكريات الشهور التي قضيتها معهم في المدينة الجامعية أو على مقاعد المدرجات أو في المكتبة ومقصف الكليّة.

لو كنتَ موظّفاً، تخسرُ وظيفتك وراتبك وحياتك المهنية وأصدقاء العمل.

لو كان لك أب أو أم، لا تحضر جنازة أبيك أو أمك أو غيرهما.

لو كنتَ أباً، أولادك يكبرون بعيداً عنك، وأنت كذلك.

لا تتعرّف على أبناء إخوتك وأخواتك، وهم كذلك.

تشيخُ خطيبتك وتذوي. وأنت كذلك.

تفتقد المدن والبلاد والأماكن… وهي كذلك!

الأم المقيمة في دمشق ترى ابنها المغترب في الشتات بتواتر أكثر من ابنها الآخر المحاصر/ المعتقل في غوطة دمشق الشرقية، على مسافة تُقاسُ بالأشبار.

وأنت معتقل، يعتبرُ سؤالُ أحدٍ من معارفك عن مكانك أو مصيرك مخاطرةً قد تكلّفه ثمناً فاحشاً. وكذلك -وأنت محاصر- إن اتصلَ صديقكَ بكَ من منطقة غير محاصرة فهو يجازف بحياته.

في الحالتين، كل تفصيلٍ من تفاصيل حياتك محكومٌ ومتأثرٌ بما يقرّره الآخرون… غيرُك!

تقبع وتتعفن وأفضل مهاراتك هي العدّ والحلم… وتلقّي التعذيب!

مهما كان وضعك جيداً أو سيئاً داخل المعتقل، فأنت لا تغادره؛ بل إنه من غير المسموح لك أن تغيّر زنزانتك لزنزانة أخرى. ترحيل المعتقلين من سجن إلى آخر مسألة معقّدة، وغالباً ما تكون إجراءً عقابياً؛ مثل ترحيل السجين في سجن عدرا إلى سجن صيدنايا أو إلى السجن الصحراوي. أو ترحيله من سجن حماة المركزي إلى البالونة، أو إعادته لأحد فروع التعذيب التي أرسلته سابقاً. وقياساً: ترحيل المحاصَرين المحبوسين في قدسيا أو داريا أو حلب الشرقية أو حمص والوعر إلى إدلب، أو إعادتهم إلى «حضن الوطن»!

لا شيء من البديهيات بديهيٌ في المعتقل أو في الحصار، الأكل، الشرب، القهوة، قضاء الحاجة، الحمام، النوم، الضوء، الألوان، الهواء، حضن الأم…

تعود للظهور أمراض وأوبئة يظنّ الطب أنها انقرضت. وقد تفتك بمحاصرين أو معتقلين أمراض ليست قاتلة عادةً وعلاجُها بسيط، في ظنّ الأطباء أيضاً. كداء النَّغَف أو الغرغرينا أو أعراض شلل الأطفال في الغوطة الشرقية، أو الجَرَب في سجن صيدنايا أو الإسهال في سجن المخابرات الجوية. أو أي خمش يُصاب به معتقل في أحد زنازين فرع أمن الدولة؛ سيتفاقم ويتقيّح في الجو المُجرثم المكتظ بأكوام البشر وفضلاتهم، ليكون قاتلاً.

في صيف 2003 في فرع فلسطين، احتاج رجل خمسيني يعاني احتشاءً في قلبه لإسعاف إلى المشفى، دقّ الشاويش (المعتقل الذي يتمّ التواصل مع السجانين من خلاله) باب الزنزانة، ولما حضر السجّان ترجّاه جميع من في الزنزانة -بمن فيهم الأشرار- أن يستدعي طبيباً أو يحضرَ «حبّة تحت اللسان» لزميلهم «المجلوط». لكن الردّ كان: «لمّا يموت دقّ الباب لنخرج الجثّة»، وهو ما حصل!

في خريف 2017 في الغوطة الشرقية، وبعد جهود كبيرة، اطَّلَعَت وفود الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر ومنظمة الصحّة العالمية والهلال الأحمر، وغيرها على قائمة الإخلاء الإسعافي التي أعدّها أطباء الغوطة. القائمة فيها 500 حالة مرضية بحاجة لعلاجات فورية لا تتوفر في الغوطة. عاينوا المرضى بأنفسهم، وأبدوا تعاطفاً و(قلقاً) ووعدوا خيراً. ثم ركبوا اللاندكروزرات وتركوا قائمة الإخلاء تنتظر الموت… ويأتيها!

الموت وحده كسرَ الحصار عن الشاب نبيل المصاب بالسرطان وحرّره، هو المُحرَّر العاشر -حتى الآن- من القائمة. الطفل أسامة سبق نبيل من قائمة الإخلاء، كان بحاجة لعلبة دواء يمكن شراؤها من أي صيدلية خارج معسكر اعتقال الغوطة الشرقية. وقبل أسامة ونبيل، بصقت الطفلة عائشة على قائمة الإخلاء «الإسعافي» وعلى هذه الدنيا البائسة وهي تغادرها، وقبلهم وبعدهم لا زال الشيء الوحيد الذي ينجح بكسر حصار الغوطة هو الموت؛ يرتقون بعيداً عن القهر ورثاثة العالم: كسرُ الحصار موتاً!

سنة 2000، في مطار المزة العسكري، معتقل المخابرات الجوية، صرخ السجان بالشاويش: «قديش العدد عندك؟» أجابه الشاويش: «28»، فرمى له في قصعة الطعام ملعقةً ممسوحةً من الحلاوة.

سنة 2017، وصلت إلى الغوطة الشرقية -بعد انتظار طويل- قافلة مساعدات أممية «كبيرة» حَوَت طعاماً لا يكفي وجبة واحدة للنصف مليون محاصر… لا نعرف إن أرفقوا قافلتهم بعبارة: «إنشالله سمّ»، كما صرخَ سجّان مطار المزة العسكري وهو يصفع النظرة المدهوشة على وجه الشاويش الذي استقلل ملعقة الحلاوة على 28 جائعاً.

يرتاب المعتقلون من أي تحسّن في معاملة السجانين لهم؛ كتخفيف التعذيب أو تحسين الطعام أو وعد بإطلاق سراحهم. تعلّموا أن مثل ذلك فألٌ سيء؛ قد يعقبه حفلات إعدام أو تشديد من نوع ما.

واعتاد المحاصرون أن تُحاط «الانفراجات» كفتح الطريق أو دخول المساعدات، بتصعيد في المجازر والتنكيل. يكاد لا يخلو دخول لقافلة مساعدات أممية من قصف عنيف قبله وبعده، بل أثناءه في غير مرة.

ليست هذه حوادث فريدة، ما يجعلها تجيب على تحليلات مطوّلة للباحثين عن أسباب التطرف وازدهار الفكر العدمي في هذا العالم القاهر والمقهور.

في المعتقل والحصار يظهر أسمى ما في النفوس وأحطّه، عندك وعند من حولك؛ ترى تجلّيات للحبّ والشهامة والإيثار والرفض، كما تتجلّى الكراهية والنذالة والأنانية والخنوع… تتيه في أسئلة وجودية حول لوم الجائعين أو العراة أو المسجونين إن سعوا لتلبية الحاجات الغريزية عند البشر.

في المعتقل، أنت خاسرٌ على طول الخط؛ تؤلمك السياط إن طالتك حفلة تعذيب، وتتوجّع وأنت تعدّ سياطاً تمزّقُ زميلك. وفي الحصار، يعضّك الجوع فتتضوّر، ولا تهنأ إن أكلت، بينما ينهش سوط الجوع الكافر غيرك.

إنتاجيتك تتعلّق بمدى قناعتك بعدم تغير الحال؛ أي بما يسميه المعتقلون «الاستحباس»، وهو أن تتعامل مع الحبس كواقع دائم لن يتغير. تفكيرك بفتح الطريق الوشيك (العفو) وما شابه من انفراجات يزيد في معاناتك، ويعرقل تأقلمك.

تدهشكَ قدرتكَ أو قدرة زملائك المعتقلين/ المحاصرين على الاستمرار… الاستمرار بأي شيء حتى الحركة والتنفس وباقي الوظائف الحيوية.

تتحجّم تطلعاتك وأحلامك، أقصى ما يتمناه المعتقل في أحد فروع التعذيب أن ينام على ظهره، أو أن يفرد جسمه على طوله. في أحد المعتقلات أسرّ شاب لزميله بأمنيته: أن يركب سرفيس مزة جبل كراجات من أول الخط لآخره! وفي إحدى بلدات الغوطة الشرقية تمنّت صبيّة فنجان قهوة في سوق ساروجة.

لو حدث وخرجت من هذا المعتقل/ الحصار، ستبقى مثقلاً بندوب كثيرة في جسمك وروحك. المفروض أنك أدركت نعمة السّعة والوفرة… والأهم: نعمة الحرية، لكن الخبر السيء أنك لن تعيشها عندما تنالها. صحيح أنك ستحمل ندوبك أوسمةً قد تستثمرها كمصدر للطاقة إن نجوت، لكن ذنب البقاء survival guilt سيمنعك من مواصلة حياتك مثل الآخرين.

يشاركك المعتقل/ الحصار زملاء، مهمتهم الأساسية هي زيادة معاناتك أنت وباقي المعتقلين سيئي الحظ. قد يكلّفهم السجان بتنفيذ هذه المهمة أو أنهم -بطريقة ما- يتغوّلون ويتنمرون على باقي المعتقلين. سيفرح السجان إن هم أخذوا عنه مهمة تعذيبك أو سجنك داخل سجنك!

موقع الجمهورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى