صفحات العالم

في الموصل an orgy of killing/ حازم الامين

 

 

 

تُجرى في العراق وفي هلال الحروب الأهلية المشرقي، عملية تسريع هائل للدورة الخلدونية، بحيث إن عمر التجربة لن يزيد عن سنة في ما يبدو. ففي غمرة وقائع كبرى تشهدها المنطقة، بدءاً بهزيمة الأكراد في العراق إلى قمة سوتشي في روسيا وما بينهما من أزمات في لبنان وسورية، تحصل وقائع باردة وبطيئة ومؤسسة لانقلاب جديد على الستاتيكو الذي أرساه النصر الإيراني. الصحف ووسائل الإعلام العالمية (غير العربية طبعاً) بدأت تسرد وقائع حصلت وتحصل في مدن الانتصارات الإيرانية. «الغارديان» تحدثت في تحقيق طويل وموثق لغيث عبدالأحد الذي رافق القوات العراقية في الموصل عما أسمته an orgy of killing وفيه صور مرعبة عن عمليات تصفيات واسعة تتورط فيها وحدات من الجيش العراقي.

مصور عراقي آخر هو علي أركادي نال جائزة في فرنسا حول صور التقطها لانتهاكات «الحشد الشعبي» في محيط الموصل، لكن الجائزة أثارت نقاشاً كون المصور اعترف بمشاركته في التعذيب، وقال أن ذلك كان شرط عناصر الحشد للسماح له بالتقاط الصور.

طبعاً، الإعلام العربي ليس هذا موضوعه، ذاك أنه مأخوذ بوقائع ما بعد الحدث. بقمة سوتشي وباستقالة الحريري وبمؤتمر الرياض للمعارضة السورية. وغالباً ما وقعنا في أفخاخ الحدث، فيما الوقائع الفعلية تحصل بموازاة ما نحن عالقون به. لكننا لسنا وحدنا ضحايا هذه المعادلة البائسة، فالفاعلون فيها ضحاياها أيضاً، ذاك أن وقائع الموصل تحصل فيما هم يعقدون الصفقات والتسويات معتقدين أن المدينة استقرت على وضعها الجديد. هذا ما حصل حين تدفق «داعش» على المدينة في 2014. ففي تلك اللحظة، قالت الموصل كلمتها الحاسمة: «لا أريد نوري المالكي حتى لو كان البديل هو الطوفان». الموصل جربت الطوفان وكابدته، وها هي تكابد طوفاناً موازياً لا يبدو أنه يقل فتكاً عن الطوفان الأول. وهذا ليس جزءاً من حسابات التسويات والتفاهمات.

والحال أن العراق يمكن أن يكون نموذجاً عن حال الإقليم مع الانتصارات الإيرانية المتناسلة فيه. فالجماعات المهزومة تعدت العرب السنّة. الأكراد صاروا جزءاً من مشهد الهزيمة، وثقافة الانتصار المهيمنة تستعير لغة الطاغية الذي ظلمها في ممارستها الظلم الموازي. وها هو وزير الخارجية العراقي إبراهيم الجعفري يمد طموحه إلى خارج العراق ويُدلي بدلوه حول لبنان متمسكاً بسلاح «حزب الله» فيه.

الهزيمة تضم إليها في العراق مزيداً من الأقوام، والنصر صار خارج الحدود، وطموحات أصحابه أطاحت منطق أي استقرار يطمح إليه المنتصرون عادة. التسويات والمفاوضات تُجرى وفق هذه المعادلة، متجاهلة حقيقة أن المعادلة لن ترسو على قبول المهزوم بهزيمته، ذاك أن من يفاوض للمساومة على الهزيمة باسمه سيجد نفسه قريباً في العراء. آل النجيفي في الموصل سقطوا في هذا الفخ، وها هم اليوم يقيمون بين أنقرة وأربيل، ونجيب ميقاتي في لبنان ذهب في التسوية مع المنتصرين إلى حدود قبوله بحكومتهم، وها هو اليوم يبحث عن مقعد نيابي واحد في مدينة طرابلس.

ما يحصل في الموصل ليس في صدارة المشهد. هذا الأمر لن يدوم طويلاً، فوقائع الاضطهادات هناك هي سياق وليست حوادث منفصلة، ذاك أن ثمة تجاهلاً سياسياً لحقيقة ميدانية. الحرب قُدمت، سياسياً، بصفتها عملية تحرير للمدينة من عناصر التنظيم الإرهابي، وهذا ما أملى تجاهلاً لحقيقة موازية، تتمثل في أن «داعش» تتويج لمشاعر التهميش والاضطهاد التي أصابت السنّة العرب. وفي ظل هذا التجاهل، لم تجر تسوية سياسية تعقب القضاء على التنظيم. انتصر الشيعة في هذه الحرب، والمشهد كله يوحي بأن الهزيمة أصابت السكان السنّة. مدينتهم مدمرة، والحشود الشيعية تصدر أحكام الإعدام من دون رقيب تقريباً، وخيم النازحين تزنر المدينة من أطرافها كلها.

لم يسبق أن استكانت جماعة لهذا الواقع. هي اليوم ليست تحت مجهر المعاينة. إعلامنا مأخوذ بمشاهد لقاء سوتشي واجتماع المعارضة السورية في الرياض واستقالة الحريري. وفي هذا الوقت، تتأسس مأساة بعيداً من انتباهنا. من زار المدن المنكوبة يمكن أن يلمس الفارق الكبير بين ما يحصل فيها وما يصل إلينا منه. فالوقائع ثقيلة ومن المستحيل أن يتجاوزها الحدث، وإن لم يكترث لها في لحظات انتشائه بالنصر.

والحال أن ما يساعد على هذا النكران هو أن رأس الهرم غير معني فعلاً بحجم الصدوع وبنتائج الانهيارات. فإيران لم تعط اعتباراً لعواقب انقضاض جماعة على جماعة في مناطق نفوذها. وهي نفسها تقيم على كلا طرفي الصدوع، وهي غير معنية أيضاً بحجم المأساة في جانبها الشيعي. لم تبد يوماً حساسية تذكر حيال خسائر حلفائها. الأيديولوجيا نفسها التي دفعت عشرات آلاف الإيرانيين إلى الموت في حقول الألغام التي زرعها صدام حسين، تُحرك قائد الحرب الجديدة قاسم سليماني. إنجاز المهمة يتقدم بأهميته الأثمان المطلوبة لتحقيقها، وإذا كانت تتطلب اقتلاعاً وتغييراً ديموغرافياً فهذا ثمن ممكن، والمآسي هذه المرة خارج حدود الجمهورية الإسلامية.

ما نقلته «الغارديان» من الموصل ليس استثناء. كل الآتين من هناك يتحدثون عما يحصل في المدينة. الأكراد، جيران المأساة، وبعد ضمهم إلى معسكر المهزومين شرعوا يتحدثون عما يحصل في المدينة الجارة. وثمة قواعد متباعدة للجيش الأميركي حصلت في محيطها وقائع عاينها الجنود والضباط وصمتوا. التوازن اليوم يقتضي الصمت، ويقتضي تجاوز تقارير المؤسسات الدولية. لكن اختلالاً صغيراً سيعيد هذه المشاهد إلى الصدارة. أشرطة «يو تيوب» المهملة اليوم ستعود لتتحول قرائن على الانتهاكات عندما تحين لحظة سياسية تسمح بذلك. هنا تماماً يكمن الفارق بين الحدث منظوراً إليه من صحافتنا، والحدث نفسه منظوراً إليه من الصحافة الغربية. ففي حالتنا، وظيفة الحدث تسبقه في أولوياتنا، وفي حالتهم ترسل «الغارديان» صحافييها وتفرد لقصصهم صفحات وصوراً، لتقول إن ثمة جريمة ترتكب ببرودة وبطء، وسننتظر آثارها في الجولة المقبلة.

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى