صفحات العالم

في الواقع الافتراضي/ مصطفى زين

تشكل المحادثات الأميركية – الإيرانية مفصلاً تاريخياً مهماً في الصراع الدولي على الخليج العربي وبلاد الشام. توصل الطرفان إلى هذه المرحلة من الانفراج في علاقاتهما المأزومة، على أساس واقع مختلف عن الواقع الافتراضي الذي خلقه الإعلام الذي صور الحرب قائمة في أي لحظة بينهما، خصوصاً أن إسرائيل، وهي المتضرر الأول من هذا الانفراج، ضخت كمية كبيرة من «المعلومات» عن اقتراب طهران من إنتاج قنبلة نووية، ملوحة بضربها في أي وقت، ولو كان ذلك من دون موافقة واشنطن. وما زال الرسم الرديء للقنبلة النووية الإيرانية الذي رفعه نتانياهو عالقاً في الأذهان، حين حذر العالم من أن أمامه ستة أشهر فقط للقضاء على القدرة النووية الإيرانية وإلا فاته الوقت. والحقيقة أن التحذيرات الإسرائيلية لم تكن سوى جزء من الحملة الإعلامية لخلق واقع افتراضي مغاير للواقع الذي تعرفه الإدارة الأميركية وتبني سياساتها على أساسه.

كانت واشنطن تراقب الوضع في الخليج وفي بلاد الشام. شاركت هي أيضاً في حملة الواقع الافتراضي على أساس تقارير الاستخبارات الإقليمية والدولية. لكنها وجدت أن معظمها خال من الصدقية. من ذلك مثلاً، أن الأسد سيسقط خلال أسابيع قليلة، وأن الجيش السوري سينهار، أو ينقلب عليه، وما عليها مع الحلفاء سوى تلافي الفوضى وحصرها في موضعها كي لا تنتشر في المحيط فيصعب احتواؤها. ومنها أيضاً أن العقوبات المفروضة على إيران ستجعلها تستسلم، ولن يكون في استطاعتها مساعدة حليفها في دمشق. والأهم من كل ذلك، كان الإعلام الافتراضي يؤكد أن روسيا والصين ستغيران موقفهيما وتلتحقان بالتحالف المناهض لإيران وسورية. وقد بني هذا التصور على التجربة الليبية وتغيير بكين وموسكو موقفهيما من القذافي ونظامه الذي كان افتراضياً، على رغم واقعية وهمجية المآسي التي خلفها.

أبعد من ذلك، وضعت الخطط كلها على أساس أن هناك بديلاً للنظام السوري وللأنظمة العربية التي انهارت في دفء «الربيع». من هذه الخطط (شاركت الولايات المتحدة بفاعلية في وضعها) أن العالم العربي ومحيطه التركي والإيراني إسلامي، فلا بد إذن من التحالف مع الإسلاميين، خصوصاً بعد وصولهم إلى السلطة في تونس ومصر وليبيا. وفي التجارب الأميركية أن الإسلام السياسي ليس معادياً، فضلاً عن أنه يؤمن باقتصاد السوق، وها هو حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في أنقرة يمثل النموذج الساطع لهذا الإسلام الذي يستبعد إيران، لا بل يعاديها، وينتهج سياسة «ليبيرالية» أقرب إلى الغرب ولا يعادي إسرائيل. وها هو محمد مرسي في مصر شديد الحرص على الاتفاقات مع الدولة العبرية، وقد حيد حركة «حماس» عن الصراع المسلح، ويستطيع مع أردوغان أن يلعب دوراً كبيراً في المواجهة مع طهران، وإعادة تموضع سورية والمنطقة كلها، بدعم شعبي لا يخلو من القداسة.

هذا كان واقع الإعلام الافتراضي، أما الواقع فكان مختلفاً تماماً. الأسد لم يرحل، مرسي لم يصمد في الحكم أكثر من سنة، الإسلام السياسي الذي راهنت عليه واشنطن ودعمته أثبت أنه ليس مقدساً ولا يمثل الشعوب العربية التي تطورت بعد الكولونيالية. وقد برزت في العالم العربي دول مهمة، بينها السعودية، لا تريد وصول «الإخوان المسلمين» إلى الحكم، وتسعى جاهدة إلى إبعادهم عن السلطة في أي بلد.

أكثر من ذلك، اتضح أن الإسلام السياسي فرق مختلفة باختلاف المجتمعات الحاضنة، وأن التطرف والعنف سمة معظم الجهاديين الذين لا يعترفون بالحدود القائمة، ولا بالسعي إلى بناء ديموقراطيات، العنف الأعمى سبيلهم الوحيد لإقامة الخلافة و «العدل» والعودة مئات السنين إلى الوراء لفرض تفسيرهم السياسي البسيط للدين على واقع في غاية التعقيد.

تجاوز الإعلام الافتراضي كل هذا ليخلق صورة أخرى للواقع، لكن المآسي والحروب فجّرته. وتأكد أن السياسة لا تبنى على أساس التمنيات، وها هي الولايات المتحدة تعود إلى براغماتيتها فتذهب للقاء الإيرانيين في جنيف، فهل يعود العرب (أكاد أضع هذه الكلمة بين مزدوجين) إلى الواقع ليتفادوا المزيد من تدمير بلدانهم، أم سيبقون معلقين بالشاشات وبعالمهم الافتراضي.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى