صفحات الرأي

في انتظار المارد/ محمد الأسعد

 

 

لو سأل كائنٌ من كان الخطابَ العربي المعاصر عن فكرة الإنسان لديه، لما وجد جواباً يتجاوز الفكرة التقليدية المتوارثة؛ الصورة تحت الوعي وما بعده، مهما اختلفت صيغ هذا الخطاب، أو الفلسفات التي تقف وراءه. قد نجد في الجواب عرضاً لصورة الإنسان الثابتة كما نجدها في الأدب التقليدي والأمثال الشائعة، أو صورته المشتهاة كما يتخيلها دُعاة التقدّم والتطوّر في هذه الزاوية أو تلك، إلا أننا لن نعثر على بحث نقدي في مسألة فكرة الإنسان ذاتها، أي هذه الفكرة في تحوّلاتها عبر التاريخ.

هي فكرة لا تُناقش أساساً، لأن للإنسان صورة ماثلة في بديهيات هذا الخطاب. وسواء تعلّق الأمرُ بالفكرة الجوهرية عن الإنسان؛ حاجاته وطموحاته ومصيره أو معناه بالأصح، أو تعلّق بما يحيط به، وعلاقاته بهذا المحيط مكاناً وزماناً، تظلّ صورته هي صورة الإنسان المألوفة؛ صورة الكائن الذي يتطلّع إلى اللحظة التي يمسك فيها بمصباح علاء الدين السحري، ويطلب من المارد الطيب أطايب الطعام أولاً، والقصر ثانياً، والزوجة الملكية ثالثاً.

ومنذ أن غادر الصبي علاء الدين كهفه ساذجاً كما دخله لأول مرة، وحتى هذه اللحظة، لم تتجاوز فكرة الخطاب العربي عن الإنسان هذا الكائن الخرافي كما احتفظت به المخيلة؛ كائن يمتلك كل شيء بالمصادفة وبلا جهد يذكر. يدخل كهف التجربة صبياً، ويخرج منه صبياً لم يمر بتجربة، ولا عانى لحظات النمو والتغيّر والنضج، لا جسداً ولا فكراً.

هذ البساطة التي تحدث فيها الوقائع وتتقلّب المصائر في الأسطورة، هي ذاتها البساطة التي يعبّر فيها الخطاب العربي عن فكرة الإنسان ومصيره، سواء كان موضوع النظر الفن أو الثقافة أو السياسة أو المجتمع أو التاريخ. إنه كائن ينتظر المعجزة، ولا يدرك، حتى الآن، أن البشر يصنعونها منذ العصر الحجري لا مصابيح السحرة.

لهذا السبب، ربما، لم يمرّ الوطن العربي منذ قرن تقريباً بلحظة انقلاب حضاري واحدة، رغم تكاثر وتناسل مصطلحات “الإنقلاب” و”التجديد” و “الثورة”.. وما إلى ذلك، بل تعاورته شتى التيارات كما تتعاور التيارات المائية الصخور الراسخة، فتمضي الأولى إلى حال سبيلها، وتظل الثانية قائمة في مكانها.

الملحوظ أنه رغم ارتفاع الصخب السياسي وعجاج المعارك، سواء كانت حقيقة أو وهمية، لم يكن موضوع هذا الصخب والعجاج يقظة على فكرة للإنسان جديدة في عالم استبدل أفكاره عن الإنسان مرات ومرات، وتقدّم علمياً على صعيد فلسفته ونظمه وعقائده ومنجزاته، في ضوء الصورة المتغيّرة. وبقدر ما كان ميلاد صور جديدة لفكرة الإنسان محدّداً لمسار التطور الإنساني ومحفّزاً له، بقدر ما ظلّت استعادة فكرة الإنسان وتكرار نمطها الموروث عائقاً دون تقدّم الحياة العربية تقدّماً جذرياً من ذلك النوع المسمّى نهضة أو يقظة.

صورة الصبي علاء الدين، الموسوم بأنه الوحيد القادر على دخول الكهف والعثور على المصباح السحري، لا تختلف كثيراً عن صورة المثقف العربي (النهضوي ومفكر الحزب والمستشار والصحافي.. إلخ)، الذي اعتقد زمناً أنه الوحيد المقدّر له اقتحام كهوف السياسة المعاصرة ومعضلات المجتمعات والعثور على المصباح أو العصا السحرية، ومن ثم تغيير الكون.

لم تكن صورة الإنسان وتحوّلاتها هي موضوع الاقتحام، أو منطلقه، ولم يكن الأمر كذلك في الفن والأدب وشتى الأنشطة الفكرية، لأن خصائص الصورة المتوارثة ظلت أشبه ببدهيات غير قابلة للنقض والاجتهاد، ولأن العالم هو موضوع التغيير ورسالة الإنسان.

وأي رسالة هي هذه؟ إننا لا نجد انقلاباً على صورة الإنسان الثابتة وعلى غاياته ومساره، وبالتالي لا نجد ما يلحّ على تطوير في التشريعات والقوانين والدساتير ذي أهمية حاسمة في تكييف علاقات الإنسان بالمؤسسات والأفراد والبيئة، ولا نجد ما يلح على ذلك في علوم وفلسفات تجاوز اجترار البديهيات القديمة. حتى أننا لا نجد لدى مدرّسي الفلسفة العرب، الذين تبنوا أحدث فلسفات العصر، تبنياً إبداعياً، بل تطويعاً لهذه الفلسفات وانتقاءً يؤديان بها إلى أن تصبح ملائمة لصورة الإنسان الخالدة وفكرتنا التقليدية عنه.

مدخل الإنقلاب الحضاري، كما يرى عدد من المفكرين الذي يعلو الغبار كتبهم فوق رفوف المكتبات الجامعية، ولم نعد نجد أثراً لهم على الشاشات الفضائية وفي صفوف التعليم والمنتديات، هو اليقظة على صورة جديدة للإنسان، أي اكتشاف معنى جديد له يختلف جذرياً عن المعاني المبذولة حتى الآن. وهذا هو ما حدث ويحدث في عدة انقلابات حضارية تمثلت في أزمات فلسفية وفكرية وتغيرات اجتماعية/اقتصادية عميقة، حين كان يولد تصور جديد لمكانة الإنسان في الكون، وتحمل مسؤولية ما يتلو ذلك.

ولعل السمة الأساسية المعتادة للإنقلاب الحضاري ليس أنه يضع حداً فقط لصورة الصبي السجين في كهفه في انتظار لمعة المصباح في الظلمة، بل يقترح صورة جديدة لكائن مختلف لاينتظر المعجزة بل يصنعها ليخرج من كهفه إلى النور، ولو حفراً بأظافره؛ صورة يخرج فيها علاء الدين من الأسطورة، ويصبح وجوده مركزياً في الكون لاهامشاً فيه.

مثل هذا الإنسان الجديد هو إنسان يتكون في الزمن وعبر معاناته وصراعه للخروج من ظللمات كهفه. وحين يخرج مثل هذا الإنسان إلى ضوء الشمس سيكون مختلفاً؛ أكثر علماً وإدراكاً وإمكانيات، نما عقلا وجسداً عبر جهد يديه وفكره؛ إنه إنسان النهضة.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى