صفحات العالم

في براءة/ براءات صندوق النقد الدولي/ نهلة الشهال

 

 

آخر تقرير نشر قبل قرابة أسبوع، يــعـــــيــد الإقرار بالـصلة الـقـوية بين دوائر تـبـدو منفصلة، أو يراد لها أن تُعتبر كذلك بحسب المنظومة الفكرية والدعائية السائدة، المتفننة بتقطيع أوصال الوقائع: عزل كل منها عن سواه من جهة، وإنكار أو حجب سياقات تاريخها من جهة أخرى. التقرير خرج من فريق عمل في جامعات كامبريدج وأكسفورد (معاً! على رغم ما بينهما من تنافس) ومعهما مدرسة لندن للصحة والطب الاستوائي، أي عن صروح لم يعرف عنها أنها قواعد خفية ليساريين أو ثوار طوباويين أو أيديولوجيين، أي حالمين أو كاذبين. أما البروفسور الكسندر كانتكلينس فلا يفترض الشك به، وهو وزملاؤه هؤلاء قالوا إن برامج التقشف التي فرضها صندوق النقد الدولي على البلدان الثلاثة الأفقر في غرب أفريقيا، سييراليون وليبيريا وغينيا، ساهمت في انتشار وباء النزيف الدموي (ايبولا). وهناك بالطبع عوامل أخرى مساعدة، كالحروب الأهلية وما يصاحبها من خراب (انتهت الحربان الأهليتان في سيراليون وليبيريا تباعاً في 2002 و2003، وقضى في الأولى 50 ألفاً وفي الثانية 250 ألفاً)، والفساد المريع المستشري بين النخب المحلية، السياسية وغير السياسية، المؤدية وظائف خدمية لدى أصحاب النفوذ العالمي، دولاً وشركات عابرة للجنسيات. وقد رد ناطقون باسم صندوق النقد برفض «التهمة» وبمحاجّة أطرف ما فيها تأكيدها ببراءة أن دائرة عمل الصندوق وتدخله لا تشمل القطاع الصحي! هذا عدا نقطتين أخريين هما في حقيقة الأمر في غاية الوقاحة، إذ تقول أولاهما إن الصندوق لا يجبر أحداً على الاقتراض منه، بينما تتبجح ثانيتهما بأن الصندوق إياه وفر قروضاً بلا فوائد في تلك البلدان تحديداً.

يتعامل الصندوق مع البلدان علـــى أساس قـــاعدة «تثبيت الاستقرار على المستوى الماكرو اقتصادي» بواسطة مخططات إعادة الهيكلة، التي تفرض خفض النفقات ورفع الضرائب، فيجري من اجل ذلك توسيع نطاق الخصخصة وتشذيب شديد للإنفاق على المجالات العامة. وأول البنود التي يطاولها التدبير تتعلق بقطاعات التعليم والصحة العامين ومختلف مشاريع البنى التحتية. وعلى ذلك، ينبغي بالطبع سداد القروض. وقد أنفقت غينيا على سبيل المثال 100 مليون دولار على قطاع الصحة في 2012، ولكنها سددت ديونها الدولية البالغة 150 مليون دولار! وفي غينيا هذه، لا يستفيد من الضمان الصحي إلا 3 في المئة من السكان، ويموت 30 ألف شخص سنويا من الملاريا، بل عادت الكوليرا للفتك بالناس.

وحيال صلف الصندوق والكارثة المتكررة التي تتسبب بها وصفاته لإعادة الهيكلة ونصائحه لتطبيق التقشف الفعال، تتعاظم الدعوات في العالم لرفض سداد الديون (الأصل وليس الفوائد يا سادة!). بل إن الإدارة الأميركية نفسها (عبر إحدى وكالاتها) اقترحت في تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت على صندوق النقد والبنك الدوليين (وهي أكبر مصوِّت فيهما)، أن يتم شطب مئة مليون دولار من ديون دول غرب إفريقيا الثلاث تلك، والتي تدين للصندوق بـ370 مليون دولار منها 55 مليوناً واجبة السداد في السنتين المقبلتين. وتبدو هذه المبالغ تافهة حيال الخسائر الاقتصادية المتوقعة في هذه البلدان نتيجة الوباء، والتي قدرها البنك الدولي نفسه بـ33 بليون دولار (أي 33 ألف مليون دولار!).

ايبولا ذاك لم يولد البارحة. ولو انه تحول وباء في 2014 متسبباً بوفاة أكثر من 7340 شخصاً، بينما تجاوزت الإصابات الـ17 ألف شخص. المرض معروف منذ وقت طويل ولم يصبح قاتلاً للبشر إلا في 1976 حين أحصيت 1600 حالة وفاة في الكونغو. ومذاك لم يقم أي مختبر بأبحاث لمعرفة التحولات التي لحقت بالمرض، ولا لإيجاد علاجات له، وهي أبحاث ما زالت غائبة حتى اليوم. بل كان رد الفعل الدولي الأول عزل البلدان الثلاثة مما فاقم سوء أوضاعها. وكان الاتجاه للتجاهل التام ولترك الشعوب الأفريقية الأفقر تموت في مكانها (تحتل سيراليون المرتبة 175 من أصل 187 بلداً في مؤشر الأمم المتحدة للتنمية البشرية الذي يقيس تحديداً مستويات الدخل والتعليم والصحة، فيما تحتل غينيا المرتبة 179) لولا أنه يصعب حصر الأوبئة التي لا تحتاج لجوازات سفر ولا لتأشيرات دخول.

وفي سابقة شهيرة، تُرك الإيدز يفتك بأفريقيا حتى وصل إلى «العالم المتحضر». ليس ذلك فحسب، بل هو ما زال يفتك في شكل خاص بأفريقيا، حيث تقول منظمة الصحة العالمية (وهذه أيضاً ليست تحت إدارة غيفارا بل الأمم المتحدة) إن ثلاثة أرباع الضحايا الحاليين للإيدز (مليون و700 ألف توفوا في 2011) من الأفارقة، وإن جنوب أفريقيا في زمن مانديلا ثم مبيكي حاولت إنتاج أدوية بديلة بسبب ارتفاع أسعار الأدوية المنتجة في مختبرات ومصانع البلدان الغنية، إلا أن الرئيس كلينتون (هو، وليس النيوليبرالي بوش مثلاً) تصدى وقتها لهذه المحاولة وحاربها باسم الأمن القومي الأميركي! بما أنها تضر مباشرة بالاحتكارات المنتجة للأدوية في الولايات المتحدة (والعالم الغربي). والواقعة فضيحة فصيحة وشهيرة، تسببت بتوتر كبير في العلاقات بين البلدين. وجدير بالمعرفة أن أطفال أفريقيا ما زالوا يموتون من الحصبة لعدم توافر اللقاحات.

ومن لا يموت من المرض، بسبب الافتقار للمستشفيات والمستوصفات والطواقم الطبية (كان يوجد 50 طبيباً في ليبيريا عام 2013!)، وللأدوية واللقاحات، سيموت من الجوع. إذ تقول تقديرات الفاو وبرنامج الغذاء العالمي إن هــناك نصف مليون شخص في تلك البلدان الثلاثة في وضع حرج جداً اليوم لجهة الأمان الغذائي، والعدد سيصل إلى المليون خلال الأشهر الأولى من 2015، بسبب تقليص الحركة والتنقل وتفكيك الأسواق (لخفض العدوى)، إضافة إلى هجرة الحقول وعدم جني المحاصيل نتيجة النقص في اليد العاملة.

دراسة الجامعات الثلاث تفحصت الخطط التي طبقها صندوق النقد الدولي بين 1990 و2014 في بلدان غرب أفريقيا تلك الأكثر تأثراً بالمرض الذي لم يكن يفترض به التحول إلى وباء قاتل، وكان يمكن التصدي له وعلاجه، لولا عجز المنظومة الصحية الذي تسببت به تلك الخطط. ونشرت الدراسة مجلة «لانسيت» البريطانية الرصينة. هذا بينما يدعو البنك الدولي إلى اعتبار ايبولا «كارثة طبيعية» تماماً كالزلازل أو البراكين.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى