صفحات سورية

في بيتنا شَبـِيْحَة؟!


إيلاف ياسين عبد اللطيف

لا تغيب عن ذاكرة أي سوري ممن هم من جيلي على الأقل، كلمة كان يطلقها الفنان فارس الحلو وراء َ أطفاله العابثين في مسلسل أبو الهنا – للكاتب السوري حكم البابا ‘والله لاشْبَحْكم ع السلـّم’ كنت استغرق في الضحك ُمن الحركة والأداء والحالة الدرامية، ويغيب عني تفسير العبارة. لم أفطن حينها للمعنى الحرفي لعبارة الشَبْح. ولم أعر اهتماما لمعنى التشبيح ُ في الكوميديا السورية ؛ حتى فهمته في تراجيديا الدم السوري.

– الشبَّيْحَة – هي مفردة قبيحة، من أقبح الألفاظ في معجم العـربية! تعَافُ النفسُ ذكرها، وتكرهُ الأذنُ ـ السورية خاصة – سماعَ لفظها لسوء ِ فعلِها ولارتباطها التاريخي في الذاكرة الجمعية السورية بكل أنواع الأذى وقصص الترهيب المتراكمة على الوجدان والمتناقلة على الألسن، ولجسارة حامليها على حرمة الدم، والدين.

قد تبدو المفردة لغير السوريين؛ عبارة مجازية، أو لفظة محلية، لا تنطبقُ دلالاتها اللغوية على جرائمها الوحشية لكنها مفردة عربية صِرْفـَة ومعناها يتسق ُويتفق ُمع فعلها الجرمي، وتُطلق ُاصطلاحاً على فئة من المأجورين، تُشكلُ مع غيرها فرق َ موت، جاوزتْ في بطشها وهوسها كلَّ حدود البلاء وكأنها تدربتْ، واستعدَّتْ بهوس ٍ مجنون ٍ لمثل هذا اليوم الموعود.

ولمن لا يعلم معنى الشبح: فمن أبرز معاني الفعل: شَبَحَ، حين تقول: شَبَح َ الشيء = مَدَّه ُ ليجلِده، أو مَدَّه ُ كالمصلوبِ.

وشَبَحُ الشيء ِ= خياله ُ وظله. وهي حقاً، وفعلاُ- ظل ُّ السلطة السورية الطاغي ومن فعل ِ شبحَ نشتقُّ مفردات: شبحُ الخوفِ، شبح ُ الحرب، شبح ُ الموت.

والشبيحة ُليست ْوليدة اليوم. فهي موجودة مع ولادة هذا النظام الشبحي منذ عقود وهي خليط من العسكر والحرامية، باتت موجودة في ثنايا حياتنا؛ وطيات مفرداتها اليومية وإن ْكنا لاهيين عنها – بقصد أو من دون قصد – حتى أطلت – أخيرا – برأسها، وولجتْ علينا البيوت.

وللشبيحة قصة سمعتها، تمثلت بتعارف أحد الأصدقاء على صبية، لطيفة، بسيطة، ومن ديرة بعيدة قريبة ومختلفة، ولصحة الفطرة، وطيب الطوية وتشابهه مع مفردات المجتمع السوري قفز على الاختلاف في الملل والنحل، وتزوجَ من أحب عاشت الصبيةْ سنينَا على المحبة والوئام، وامتزج الدم بالدم وأنجبت صبيانا وبنات، ولم تعاملها عائلة صديقنا إلا بكل الود والترحيب وباتت جزءا من صلب هذه العائلة، ونسي الجميع بتواطؤ ودود اختلافها عنهم بل وظفوه في سياق رحمة الاختلاف والغنى الناتج عن تنوع الخلفيات والمشارب! معنونين حياتهم السعيدة بعبارة دارجة هناك: كلنا عيال الله. وعاش الشاب والصبية في ‘تبات ونبات’ الى أن استعرتْ نارُ المحنة في سورية؛ فحنَّ العودُ إلى أصله؛ وانقلب َ حال الصبية، من أم ٍ وادعة، وابنة وأخت إلى شبيحة وقحة بافتضاح فتارة تبتز زوجها الحشيم بخوفها من غربتها المتوقعة معه وبين أهله وعشيرته لاحقا، وطورا تستظهرُ بحسن فعلها وبصواب رأيها على جيرانها، وعلى صحبتها وخلانها؛ وتخيف شباب الحي إن حلتْ، وإن رحلتْ ولم تجد معها كل محاولاتهم بالالتفاف حولها، وطمأنتها بأنها باتت منهم منذ أن استلمت زمام قلب ابنهم، و بأن لا وازرة تزر وزر أخرى، وبأن لهم عليها فقط ولاءها للتعايش في مستقبل مشترك معهم حين يتجلى. لكن عبثا حاولوا.!.

ضاقت الدنيا بصديقنا المسكين بعد أن ظنها وسعت، ولم يشفع له عند زوجه تاريخ طويل من التسامح والود ولا مساحة الغفران الواسعة في قلبه ولا موضوعيته في التعاطي مع انحراف مزاجها الدائم ومع سلوك أهلها السافر والتشبيحي في ترهيب حياته وأسرته وعشيرته وتهديد وجودهم فعكف الآدمي العاجز أمام جور وجحود زوجته ،على الاستنجاد بالقريب والبعيد صارخا – عله يجد الحل- : يا جماعة أغيثوني. .. زوجتي شبيحة.

– لا أدري حقاً- حين سمعت هذه القصة لِمَ تذكرت ُ المسرحي الاسكتلندي جيمس ماثيو باري وما علاقته بحكاية المرأة الشبيحة، مع العائلة طيبة الأصل؟ قد يكون السبب تشابه مضمون مسرحيته الجميلة ‘كرايتون العجيب’ مع حكاية المرأة الشبيحة إذ تتحدث هذه المسرحية، بطريقة ساخرة، عن أسرة أرستقراطية، تجد نفسها في جزيرة نائية معزولة؛ بعيدة عن العالم المتحضر الذي الفت تعاطيه وأنساها من فرط الاسترخاء كما يبدو – كيفية التعامل مع متغيرات ومعطيات جديدة في أوقات غير متوقعة حرجة فتنقلب الحكاية ويصبحُ الخادم قائداً للجماعة، ويتحول السادة إلى عبيد.

– اعتقد أن جيمس باري أراد أْن يقول حينها: أنَّ الأوقات المختلفة، تفرز أشخاصاً مختلفين للقيادة. ففي مسرحيته الرائعة، تحول الخادم ُإلى سيد، وفي حكايتنا الحزينة، تحول بعض ممن تشاركنا وإياهم حياتنا بملء تفاصيلها إلى شبيحة.

‘ صحافية سورية مقيمة في الدوحة

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى