صفحات الثقافة

في بيتي رجال/ نجاة عبد الصمد

 

 

في بيتي رجالٌ أعادوا إلى البال رواية إحسان عبد القدوس، “في بيتنا رجل”.

هناك، في الرواية، يهرب الشاب الثائر من مطارده العسكر، ويختبئ في غرفة المراهِقة الغريرة، وتقع في غرامه، ولا تعود حياتها بعده إلى غفوتها قبله.

وهنا، “في شقتنا رجال”، نجّارٌ وبلاّطٌ ودهّان وسبّاكٌ وكهربجيّ، جمعتهم المصادفة لترميم ما تهالك من كسائها، وإلى حينه كان لا بدّ لحياة أهل البيت أن تتعطل.

قبلهم لم يكن باب الشقة يألف الضجيج، ولا يدقّ جرسه الكسول إلا في مواعيد مبرمجة. بوصولهم، حاد عن سكّةِ سكونه، وأصبح معبراً مشرعاً للداخل والخارج، كلٌّ على هواه.

استباحوا المكان بعفويةٍ ورواق، وانهمكوا في أشغالهم بسرعةٍ لافتة. داسوا الفرشات بأحذيتهم، وبما علق عليها من التراب وغبار الطريق. نثروا آلياتهم في كل شبرٍ من البيت. جالت عيونهم بغير حياد، بل بفضولٍ واثق، على منمنمات الغرف والمطبخ والحمّام. خطفوا المناشف الوديعة، واللوحات المسالمة، على عجل، من علاّقاتها على الجدار، ورموها مذعورةً على الأرض كيفما اتفق، قرب المخدات أو الطناجر أو الملابس، فتراكمتْ، كلها، مرضوضةً في شتاتها كأرتالٍ رماها النزوح في أرضٍ مبهمة.

كان على العمّال قبل إنجاز الترميم، أن يكملوا الخراب الذي استفحل. باشروا الهدم والحفّ والتقشير وقلع البلاط. آلفهم العمل فتصادقوا، وانعقدت طقوس قهوتهم وشايهم وطعامهم وفاكهتهم، تصحبها أحاديثهم حول انقطاع الكهرباء والغلاء والخطف و”داعش” والجيش الباسل…

على التوازي، تغبّشتْ ملامح أشيائي تحت أكوام الغبار، تآخت الكتب والمزهريات والصحون والألعاب واللوحات والنثريات التي يحمل كلٌّ منها ذكرى صديقٍ لا يزال صديقاً، أو رحل أو مات أو فرّقتنا ضفاف الرأي.

تبعثر كلّ شيء: البيت والوقت والأعصاب والخصوصية والفضاء المحيط…

كنت نويتُ أن آخذ إجازةً من عملي، وأتفرّغ للاهتمام بالبيت والعمال حتى انتهاء الورشة. إلا أنهم ارتأوا الاستغناء عن خدماتي بعد أيامٍ قليلة. استدلّوا إلى أماكن الأشياء وبدأوا يحضّرون شايهم متى رغبوا، من دون انتظارٍ لمواعيد ضيافتي. ولم يعودوا يستأذنونني بأدبٍ، كما في أيامهم الأولى، في أي طلب. افتقدتُ مغرفةً خشبيةً أثريّةً كنتُ اشتريتها من شارع القرباط في موسكو، ورأفتُ برسومها الفنيّة خلال عقدين من استخدامها، لأراها الآن تدور في سطل الدهان كعصاً دائخة. كذلك مناشف الحمّام والمطبخ، غدتْ مماسح تحت الأقدام والسطول والفرشايات والمطارق…

مع الوقت، بدأت نزاعاتٌ خفيّة تنشب بينهم. يريد السبّاك مثلاً أن يستفرد بالمطبخ لتسليك مواسير الماء، فيطلب من الدهّان الذي يطلي السطح أن يخرج من المطبخ لدقائق، وتمتدّ الدقائق لساعتين بحجة أن العطب أعظم مما كان يتوقّع.

قلتُ لنفسي سأقرأ كثيراً في هذا الوقت المبتور من حياتي. لكنّ التركيز فارقني. تشابكت الحروف والصفحات وتركتني أحدّق فيها ببلاهةٍ كأنها رسومٌ أعجمية. أنهض عن الكتاب لألاحق الغبار والأوساخ التي نبتت كالفطر بعد نوبة الرعد. يستفرد بي العطاس بسبب ذرّات النشارة، وينهكني الصداع من روائح زيت النفط والفرنيش والخلائط الكيميائية، إلى أن صار عليّ أن أبيت خارج البيت…

وأيضاً عزّيت نفسي بأن “ربّ ضرّةٍ نافعة”. فالنوم عند صديقاتي سيعيد إلينا أحاديث الليل والبوح الحميم الذي حالت بيننا وبينه عسرات الحياة، وهلّت الأحاديث ولم أعد أنام. طفا تعبُ جسدي، وثقلت حركتي. وأخيراً تعطّل عقلي.

تلك الفداحة: جميع أفكاري التي خزّنتها في الوعي عن معنى الحياة المبتورة، التي استعرتُ تفاصيلها من معايشتي تجارب الآخرين أو من رواياتهم الشفهية أو عبر القراءات، بدتْ ضئيلةً حيال حقيقة الحياة المبتورة. فمن غير قصدٍ، استوطن هؤلاء الرجال نظام يومي، وجرّوني إلى عالمهم الخفيف والمتمهّل والنقيض لعالمي، حتى أنهم تطوّعوا لنصحي: “لماذا التعصيب والنرفزة؟ روقي يا مدام. ما في شي بالحياة بيستاهل. تقضين النهار في التنظيف بينما ستعود الأوساخ غداً. أنت تعيقين عملنا. ارتاحي وأريحينا”.

جرّبتُ أن أرتاح. أرقب الدهّان مثلاً كيف يأخذ نفساً عميقاً من دخان “الحمراء”، ثم يبسمل قبل أن يمزج الخلطة بنعومةٍ كأنها أحلامٌ ملوّنة، وكيف يجلس بأناقةٍ إلى الغداء، ويمضغ لقمته ببطءٍ ورضى. لا يتطلّب ولا يعترض على أي طعامٍ يقدّم إليه.

قال لزوجي: “لا أريد عربوناً. فقط عدني أنك ستنقدني أجري كاملاً حين أنتهي، فقد وعدت زوجتي بخزانةٍ ولا أريد أن أخلف وعدي”. يقول، ثم يقطع كلامه للحظاتٍ إلى أن تنتهي رشقة القصف على ريف درعا القريب، فيتابع: “من هنا من طابقكم العالي، الصوت مسموع اكثر مما في بيتنا”، ويعود إلى عمله كأنه لم يسمع صوت البارود، ثم يلتفت إليّ: “أنت تشغلين نفسك كثيرا يا مدام”. “وأنت (سألتُه) بماذا تشغل نفسك؟”. “أنا؟! لا شيء. أنا أدهن. أنشغل بالدهان. أعود متأخراً إلى البيت، أتعشى، وألعب مع أطفالي، ثم أنام”.

أرقب صبيّ النجار، ذلك الجنيّ الصغير الذي استغلّ انشغالي وتجوّل في جميع غرف البيت. استدعى رفيقه وتلصّصا معاً على صورة البنت العارية في غرفة النوم. وقفا على الشباك وتناوبا على تدخين السيكارة، بينما لم تحد أعينهما عن بنت الجيران على الشرفة قبالة بيتنا. يا الله؛ كيف لم أنتبه إلى جمال جارتنا الصغيرة قبل اليوم!

رفاقي الطارئون هؤلاء، أعادوا تربيتي. هدوني إلى متعة الرواق ومتعة البطء ومتعة عدم الاحتساب.

لم أخط حرفاً خلال استيطانهم. انعصرت الحروف في رأسي ولم تولد، غارت. صاحت بي من قاعها الدائم الفوران: “كفّي قليلاً، هبيني الوقت وروحي عني إليهم.. فهؤلاء هم الحياة التي تدّعين أنك تكتبين عنها”.

 

*طبيبة وكاتبة سوريّة

النهار

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى