خولة دنياصفحات الثقافة

في تذكر أيام الاعتقال وتجربة السجن السوري: خمسة أشهر على قدم واحدة/ خولة دنيا

تمر الأيام بطيئة، تمر السنوات سريعة، ربما هي عادتها، ولكن لن نألفها حتى نموت، فننسى. في سنة 2007، كتبت عن تجربة سجن سابق. كان الحديث ضرورة، كما حاولت أن أعبّر عن ذلك بالقول: “محاولة لنبش ذاكرة غيّبها التجاهل عنوة”. أهديتها لكل معتقلي الشهور، والأيام، والساعات، لو جمعناها لكل من حالفه سوء الحظ في سوريا، لكانت أعماراً كثيرة مسروقة، ونحن في حينها كنّا نشعر بالخجل لأنها عذابات قليلة مقارنة مع كل العذابات التي شهدها غيرنا. في هذا الزمن، تبدو الذاكرة كذلك عصية على المرور، أصدقاء، أقرباء، يزورون السجن، فيخرجون متهالكين، ونحن السعداء بخروجهم نعالج ما بقي من غصات في حلوقنا، علنا نتجاوز ما تراه أعيننا، لنتصالح مع فكرة أنَّ المهم في الأمر البقاء على قيد الحياة.

أي العلاجات قد يكون مفيداً لتجاوز كل هذا الألم؟ لا شيء، ولا حتى ترميم الذاكرة البعيدة، ولكن قد تبدو هذه الذاكرة أحياناً مساعداً ما، لتصور ما يعيشه أحبتنا، فنندمج بهم، ونتعايش مع وجودهم المقيّد، نحاول أن نصلهم بطريقة ما، فهل نصل؟

ذاكرة السجن

ذاكرة البيت العربي الذي كان بيتي منذ الولادة، وحتى الاعتقال، بيت النارنج والياسمين، بيت الشام كما لا يمكن أن تكون الشام بدونه بيتاً. الرجال المنتشرون في أرض الدار، الشبّاك الذي أصررت على إغلاقه لأغير ملابسي قبل الرحيل، الأرض التي وصفتها أمي بالمزبلة بعد شهرين من سكن عناصر الأمن في البيت ينتظرون، لا أدري ماذا من مجيء أحد ما. أتذكر عيون أهالي الحارة المستترة وراء الأبواب والمليئة بالفضول والتساؤل.. فيما الزقاق مدجج بالرشاشات! أتذكر العيون المطمشة، والدوران في سيارة الأمن بين عنصرَين ومحاولتي لأعرف الاتجاه، وإلى أين نحن ذاهبون. درج القبو الذي كان لا نهائياً حديدياً مغلقاً في نهايته. الدولاب وأدوات التعذيب في الغرفة، والضابط الساحلي الأحمر الوجه واليدين، الذي علمني كيف أجلس بالدولاب (بالصرماية). للوهلة الأولى خجلت من الوضعية عَيّنها.. لم أتعود أن أضع باطن قدمي في وجه أحد.. للأسف ولا حتى وجه الجلاد.. لكنني الآن أراها مناسبة تماماً لتلك الأوقات!

العنصر نصف النائم.. الذي كان يصب الماء على قدمي فيما أنا أرفس بهما حتى أمنع تورمهما. والكابل الكهربائيٍ المجدول الذي ترك آثاره على قدمي لأسابيع تالية. الضابط الآخر ابن حرستا، بلطافته المصطنعة وهو يلعب دور الطيب، فيما تناوب مع “الأحمر” على الأدوار عندما اعتقلوا صديقتي بعد عشرة أيام. أضيف الصعق بالكهرباء في اليوم التالي.. واستمرت الدولبة. أصبحت أخاف الليل وأنتظره. أترقب فتح باب السجن، وصوت الضابط “هاتوها”. ومرت الأيام. توقف التحقيق.. ودخلنا في رتابة القبو.

اعتدت النوم على صوت الصراخ، كما اعتدنا تمضية بعض الأمسيات بالغناء، كان الغناء والنقر على الحيطان طريقة تواصلنا الوحيدة، الهمسات القليلة نتبادلها في بعض الأحيان، الخيوط المنشولة من البطانيات لنخيط ملابسنا، ونطرز من البشكير الملون قطعاً فنية، تضاف إلى ثروتنا من مسابح الزيتون المحفوفة على الحيطان. أشياؤنا القليلة التي أتتنا بطريقة “التسلل” والرشوة، في واسطات يقوم بها الأهل فنشعر بهم ويشعرون بنا، ونحن نلوح بعض القطع بين الشبابيك لنوصلها لبعضنا البعض. هدايا من معتقلين خرجوا قبلنا، فتذكرونا بكيس تفاح من سرغايا عبر أحد السجانين المتعاطفين. تآلفنا مع العناصر وألفونا، أصبحوا يودّعوننا عند سفرهم في إجازة، متمنين عدم رؤيتنا عند عودتهم! ولكن كنا دائماً في الانتظار.

ابن الرقة ذاك الذي داس ببوطه العسكري على رأسي، أصبح صديقاً نوعاً ما، لا استطيع منع نفسي من التفكير اليوم أين هو الآن؟ فهل ما زال يريد إهدائي ذاك الدولاب الذي قال إن علي أن أربي أولادي على الخوف منه؟ أم أنه تجاوز الدواليب والتحق بالثورة؟ كان يجهز لنا الشاي أحياناً، في الليل بعد انتهاء دوام التعذيب. طلبت منه إخراج دفتر ذكريات شخصية، كان من جملة المصادرات، قلت له لعلّي أخرج من هنا فتعيده لي، وهو ما حصل بصدفة غريبة بعد شهور طويلة. ابن إدلب “الجاحظ”، الذي أسميناه كذلك لجحوظ عينيه ودهشته من وجودنا، وكان قد انتقل حديثاً إلى الفرع، ذاك الأربعيني الذي تعامل معنا بكل ود واحترام. ابن درعا المبتسم دائماً، طيب القلب، كان مصراً على تحفيظي آية الكرسي المفيدة لهذه الحالات.

ابن مصياف (من جماعتنا) الذي كان مصراً على أنه سيقطع يده إن لم يكن لي علاقة بالحزب أكثر مما اعترفت به، وكان مصراً على النبش في الأرشيف ليجد تلك العلاقة المخبوءة.

وأخيراً المسيحي المترفع عن كل شيء… لم يمارس التعذيب وكان أشبه بكاتب حيادي لا ينظر في العيون أبداً، ويكتفي بالروتين الوظيفي من دون أي مشاعر من أي نوع، وبدون حشرية أو تطفل.

يمّر هؤلاء اليوم في الذاكرة، ليست ذاكرة منسية، هي ذاكرة هشّة تنتظر فقط نبشها لتعود حيّة.

أحببت شوربة العدس الكثيرة الماء وحبات العدس مترسبة في قعرها، أحببتها من القلّة، كما قال لي أحد أصدقائي المعتقلين. أحببت أكلة السبع الدول، قلت لهم سأطبخها عندما أخرج من السجن.

في فضاوة السجن كان التعذيب أقل من المعتاد، عرفنا السبب بعد أيام من اعتقالنا، فهناك من مات تحت التعذيب في الزنزانة السادسة، قالوا لنا هناك كان منير فرنسيس، ابن يبرود، المعتقل بتهمة “المكتب السياسي” والكتابة على الجدران، أصيب بنوبة كلوية جراء الضرب الهمجي في مخفر النبك قبل المجيء به إلى الفرع، وعدم تلقيه العلاج، واستمرار التعذيب. بعد خروجنا من السجن زرنا يبرود وزرنا بيت منير وسمعنا حكاية التابوت المصفح الممنوع فتحه، وكيف أُجبر الأهل على دفن ابنهم من دون وداع يليق به.

لم يكن الموت قد أصبح مشاعاً في حينها، ووقتها سمعنا أن الضابط المسؤول عن التحقيق تمت معاقبته وضربه رئيس الفرع كفاً على وجهه، لأن أحد المعتقلين السياسيين مات تحت التعذيب.

شبّاك صغير يطل على ساحة الفرع، نرى من خلاله أقدام من يمرون، فرأينا ولدَي الضابط يلعبان، والعناصر يتراكضون عند خروج الضباط، السيارات التي تفتح، والمعتقلين الجدد بعيون مطمشة. كان حظي من الشباك أكثر من غيري، فالضوء القليل القادم والحركة التي تبدو لأناس طبيعيين كانت حلماً آنذاك بالنسبة للبقية.

هذا الشباك الأشبه بمتاريس مدينة مصفحة، شربت من خلاله “المتة” التي أراد الحارس المجنَّد أن يهديني إياها أحد الأيام، فجعل حراسته قرب الشباك، وأدخل الكأس عبر الزجاج المفتوح قليلاً ليدخل “المصاصة” من الشَبَك الداخلي وأنا أقف على رؤوس أصابعي. كان شيئاَ مدهشاً ومرّاً وأكثر إنسانية فيما مرَّ عليّ في حينه.

مع نهاية الشهور الخمسة، تمَّ تحويلنا أخيراً إلى سجن النساء، ثلاثة أيام من حديث لم يتوقف عن الحياة خارج المعتقل، عما نتذكره ونعرفه. عيون تحاول أن ترى النور في عيوننا الخامدة، ونحن نجلس أعلى مكان في (الجماعية) نحكي عما نعرفه، وتتقاذفنا الأيادي لتعرف كل واحدة شيئاً ما. المعتقلات السياسيات، نساء بعمر الزهور، طالبات جامعيات، وأمهات وحبيبات.. ينتظرن الخروج إلى الحرية. السنون التي تلت لم تخل من توقيف يومين هنا، واحتجاز هناك، وتحقيق هنالك واستدعاء هناك، ثم منع سفر لأكثر من عشر سنوات.. وعدم إمكانية التوظيف في أي جهة حكومية! هل توقف صديد الذاكرة عن النزّ؟ لا أظن، فالكثير من التفاصيل الصغيرة، تفاصيل السجن التافهة الصغيرة، كل عالمنا في حينه، لن تقبل النسيان.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى