صفحات سورية

في تفسير يسار رث يدعم الاستبداد/ سمير الزبن

 

 

كشفت الثورة السورية، بوصفها حدثا كاشفا للكثير من الكوامن في الحياة السياسية العربية، عن قوى وشخصيات «يسارية» لا تتورع، ولا يرف لها جفن، في الوقوف إلى جانب الاستبداد ومناهضة ثورة الشعب السوري. كانت هذه المواقف صادمة ليساريين آخرين، وجدوا أصدقاء سابقين لهم ينحازون إلى النظام الدموي في دمشق، واحتاروا في تفسير الظاهرة، كيف يمكن ليساريين الانحياز إلى نظام استبدادي قمعي أدمى بلده ودمر مجتمعه؟! يقول البعض: أن الوقوف مع الاستبداد لا يستقيم مع العقل، فكيف يستقيم مع اليسارية؟! ما يجعل الحيرة أكبر.

لفهم الظاهرة علينا الإقرار أولاً، أن اليسار واليساريين ليسوا نوعاً واحداً، ولا ينتمون، لا للخيارات السياسية ذاتها، ولا المصالح ذاتها، والأهم من هذا وذاك، لا ينتمون إلى القيم ذاتها. وأعتقد أن الظاهرة ليست جديدة، وإن كانت سابقا قادرة على التخفي بشكل أفضل، بحكم تعقيد الصراعات في العالم، وبحكم انقسامه إلى قطبين بين ما عرف بـ»المنظومة الاشتراكية» وعدوها «البلدان الامبريالية». أخفت الثنائية القطبية الكثير من عيوب قوى اليسار والشخصيات اليسارية، بحكم التبعية العمياء للمركز الاشتراكي في موسكو، وكان إعلان الانتماء إلى هذا المركز كافياً لاعتبار هذه القوى، بعد مباركة المركز في موسكو، جزءاً من المنظومة الاشتراكية والأحزاب الشيوعية وحركات التحرر. ولكن عند النظر في الصراعات التي تفجرت داخل هذه القوى، يتبين أنها جزء مكون من واقع الحال المحلي ونوازعه وصداماته وتناقضاته. كان ذلك واضحا في تجربة اليمن الجنوبي، و»القبائل» الشيوعية، ولم يتورع بعض من قيادة الحزب الاشتراكي اليمني في أمر مرافقيه بإطلاق النار على القيادات الأخرى والأصدقاء «التاريخيين»، من أجل الاستئثار بالحكم، وهي معروفة تلك المجزرة التي جرت في العام 1986 أثناء الصراع على السلطة، وما زال بطلها موجوداً معاملته باحترام، بدل أن يعامل كمجرم حرب. ومن المفارقات، أنه يحظى باحترام استثنائي في دمشق، التي عاش فيها بعد مغادرته اليمن.

اليسار واليساريون الذين انحازوا إلى استبداد بشار الأسد، هم ذلك النوع من اليسار الرث الذي يُعلي القضايا على البشر، ولا يرى في البشر سوى قرابين من أجل هذه القضايا. فالقضايا بالنسبة لهم مجردة، متعالية، فوق كل اعتبار، وتستحق كل تضحية. أما البشر، من وجهة نظر هذا النوع من اليسارية الرثة، فهم الحاملون لهذه القضايا وليسوا أصحابها. لذلك، بالنسبة لهم، لا يهم حجم التضحيات والضحايا، طالما أن القضايا التي يدافعون عنها «مهمة»، حتى لو بقيت القضايا وتم القضاء على كل أصحابها من البشر.

أعتقد أن هذه اليسارية الرثة ولدت في العالم العربي في أعقاب هزيمة العام 1967. حينها، تم اختراع الفكرة التي تقول: إن العدوان الإسرائيلي، لم يستطع أن يحقق أهدافه في إسقاط «الأنظمة الوطنية» التي حكمت مصر وسوريا في ذاك الوقت، وبالتالي بقاء هذه الأنظمة حاكمة لهذه البلدان هو إفشال للأهداف «الامبريالية الصهيونية» من وراء الحرب. لا يهم إذا احتلت إسرائيل في هذه الحرب مساحة أراض من الدول العربية المجاورة تبلغ 4 أضعاف مساحة فلسطين. فالقضية الأساس «الأنظمة الوطنية» وليست الأرض، من أجل ذلك تم إطلاق التعبير السخيف الذي نحته الصحافي المصري محمد حسنين هيكل أن ما جرى في العام 1967هو مجرد «نكسة»، وليس حدثا كبيرا أعاد رسم خريطة المنطقة، وفرض وقائع على الأرض ستحكم المنطقة لزمن طويل.

وعلى القاعدة ذاتها يشتق اليسار الرث موقفه من نظام بشار الأسد، فمن وجهة نظر هؤلاء أن النظام السوري «نظام ممانع»، فهو لم يوقع اتفاقات مع إسرائيل، وهو يقاوم الوجود الأميركي في المنطقة… الخ. أما عن كيف يمانع؟! فهذا السؤال غير مطروح في أجندة هذا اليسار الرث. وماذا عن أصحاب القضايا التي يمانع من أجلها، هنا الجواب دائما جاهز، أن المعارك الكبرى بحاجة إلى تضحيات، وللتخفيف من وطأة الخسائر يتم تكبير حجم المؤامرة على سوريا. فمن وجهة نظر هؤلاء، سوريا تتعرض إلى «مؤامرة كونية» (اعتقد أن الصياغة ملكية فكرية ليساري لبناني رث) ولا شك بأن مؤامرة بهذا الحجم تحتاج إلى تضحيات كبيرة، فسوريا لا تقاتل دفاعاً عن ذاتها، بل تدافع عن الأمة العربية، بل حتى تدافع عن العالم في وجه الإرهاب، كما يقول الخطاب الدعائي ليسار رث، ورث التلاعب بالكلام كموهبة عمل سياسي، يتم استيرادها من مقاهي الجامعات في السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم. والكلام عن التضحيات الكبيرة التي يحتاجها التصدي لـ»المؤامرة الكونية» هي الترجمة الفكرية من اليسار الرث لكلام رجل المخابرات هشام بختيار الذي قضى في تفجير خلية الأزمة، عندما كان يقول لمن يلتقيه من السوريين: لن نتورع عن إعادة عدد سكان سوريا إلى عشرة ملايين (السوريون يعدون سنة انفجار ثورتهم 23 مليون نسمة) ذلك المنطق مشتق من هذا المنطق، القضايا لا أصحاب لها، هناك حراس لها، مثل النظام الدموي في دمشق، وعلى أصحاب القضايا أن يقبلوا أن يكون رعايا عند «السيد الرئيس». إنها الدعوة إلى العبودية تحت شعارات «القضايا الكبرى». لذلك ليس غريباً، في ظل سيادة هذه الرثاثة، أن تجد من يقبّل الحذاء العسكري، فهو لا يرى حتى في الجندي الذي يقاتل معه سوى حذاء، فماذا تعتقد سيرى في الآخرين، وماذا سيرى في معارضيه والثائرين عليه؟!

دفع اليسارية الرثة إلى أقصاها يعني فصل القضايا عن أصحابها، بحيث تصبح مجردة ومتعالية لا أصحاب لها، يحميها مستبد من شعبه الجاهل العميل. بذلك نصل إلى ذروة الانحطاط القيمي والاخلاقي، حيث البشر أصحاب القضايا لا يعنون شيئا، القضايا المجردة كل شيء. وبالتالي لا وجود للبشر في معادلة اليسار الرث، وعند هذا الحد يصبح كل شيء مباحاً، حتى جريمة الاستبداد في إبادة شعبه. هذا بالضبط ما يدافع عنه يسار رث ومنحط، يقف إلى جانب النظام السوري في ذبح شعبه.

المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى