صفحات سوريةعمر قدور

في تهافت المراهنة على تأهيل نظام الأسد/ عمر قدور

 

 

كي لا نُواجَه بسؤال من نوع: هل المعارضة في خير؟ وهل تصلح للمراهنة عليها؟ لا بد من القول بأن «المعارضات» السورية ليست في خير، ولا تصلح ضمن وضعها الحالي لتكون بديلاً «محترماً» يلبي تطلعات السوريين، وعلى وجه خاص لا يمتلك أفضلها تمثيلاً مشروعيةَ تمثيل شريحة واسعة. لكن، في هذه الإجابة، يجري تجاوز اعتبارين أيضاً، أولهما الاعتبار الأخلاقي المتأتي من كوننا أمام نظام ارتكب جرائم حرب مهولة، وبدل مناقشة دوره السياسي ينبغي إحالة ملفه إلى القضاء الدولي أو المحلي، مثلما ينبغي إحالة جرائم بعض الفصائل المنضوية في المعارضة ضمن الملف ذاته، بصرف النظر عن كونها أقلّ كمّاً أو ما إذا كانت «أخفّ» نوعاً. الاعتبار الثاني هو عدم وجود نية أصلاً لتأهيل المعارضة لاستلام الحكم، وهذا أمر يجب الانتباه إليه جيداً، بل لعل وجود معارضات ضعيفة على النحو الحالي يلبي حاجة كافة القوى الدولية والإقليمية التي تمنع التغيير بذريعة عدم توفر البديل.

اليوم، لا تأتي من فراغ تلك التسريبات عن سيناريوهات متجددة لإعادة تأهيل نظام الأسد، ويظهر أن قسماً من المعارضة منخرط أو يتهيأ للانخراط فيها، ناسباً إلى نفسه تمثيلاً شعبياً غير قابل للقياس. الأهم وجود جهات دولية وإقليمية فاعلة، بعضها كان ولا يزال مؤيداً للأسد بقوة، وبعضها الآخر تراجع في موقفه الرافض لبقائه تحت ذريعة مكافحة الإرهاب. ولا يخفى أن دولاً عربية معادية للنظام تراجعت لهجتها إزاءه تحت ضغط الإدارة الأميركية وواقع انضوائها في التحالف الجديد ضد داعش. الخلاف الحالي، كما تبرزه التسريبات، يتعلق فقط بما يسمى «عقدة الأسد» ودوره في المرحلة الانتقالية، بين رافض لأي دور له ومؤيد لذلك. إلا أن حل عقدة الأسد قد لا يكون في المتناول لمن يشاء تبسيطها، فهذه العقدة تمثل في الواقع الحلقة الأصلب والأضيق من النظام، أي الدائرة العائلية الصغرى، والنظام يقوم فعلياً على حلقتين مترابطتين عضوياً، في الحلقة الثانية منهما يتموضع رؤساء الأجهزة الأمنية، وما يشد عصبهما بقوة هي رابطة الدم، أي تورطهما التام في المجازر التي حصلت منذ بدء الثورة وقبلها أيضاً.

إن أي استثناء للمتورطين في دماء السوريين من المشاركة في صياغة مستقبل البلاد، سيعني تلقائياً انهيار النواة الصلبة للنظام، وهذا لا يتفق مع فرضية الإبقاء على النظام الأمني الحالي مع إعادة تأهيله، أما فرضية تعزيز الملمح الطائفي للأجهزة الأمنية كنوع من طمأنة للأقليات فلا تعني سوى تعزيز الأسباب السابقة على الثورة، ووضع الأقليات في موقع يستجلب الكراهية. الأهم مما سبق، أننا أمام بنية للنظام الأمني يستحيل تغييرها على مبدأ المحاصصة، لأن المطلوب هو تقليص كبير في عدد الأجهزة وتغيير نوعي في طبيعتها، وطبيعة مهامها، إذا أُريد لها أن تنسجم مع تحول ديموقراطي، وإن يكن تدريجياً أو متوسط المدى. بالتعبير التقني، نحن أمام بنية مغلقة تشبه إلى حد كبير بنية نظام صدام، وهذه البنية تفتقر إلى المرونة بقدر ما تبدو صلدة، وقد أثبتت فشلها مرتين من قبل، أولاهما في لبنان، وثانيتهما في طريقة تعاطيها المستمر مع الثورة السورية ومع عموم السوريين.

جزء من فرضية تأهيل النظام يرتكز على «صموده» للعام الرابع على التوالي، وهو قول يرى الجانب «المضيء» من جهة النظام نفسه، من دون رؤية الجوانب الأخرى التي تنتقص من كونه نظاماً بالمعنى المتكامل للكلمة. لننحّ جانباً الدعم العسكري من حلفائه، والذي لولاه لكانت دمشق قد سقطت بأيدي المعارضة، الأمر الذي أكده الحلفاء في أكثر من مناسبة، ولنضع جانباً التضييق على تسليح الفصائل المعارضة، من أجل رؤية الجوانب الأخرى، التي تغطي عليها الأحداث الميدانية الحالية. فعلى الصعيد الاقتصادي المباشر تلقى النظام حجماً ضخماً من المساعدات المالية، ويرجح أن ما تلقاه من الحليف الإيراني وحده يعادل ضعفي الأرصدة الإيرانية التي أُفرج عنها في البروتوكول الأول لمفاوضات الملف النووي. هذه المعونات لم تساعد النظام على تمويل حربه والاستمرار في تغطية النفقات المدنية كما يُشاع، ويؤخذ مثالاً على ذلك استمراره في دفع الرواتب والأجور. في الواقع، انخفضت القيمة الفعلية للرواتب التي يدفعها النظام إلى الربع، قياساً إلى قيمة الليرة السورية قبل أربعة أعوام وقيمتها الآن، وانخفضت إلى ما دون الربع قياساً إلى التضخم في القيمة السوقية لسلع أساسية جداً، في مقدمها وسائل الطاقة.

على الصعيد الخدماتي، من المعلوم أن النظام يسيطر على ما يقارب نصف البلاد، أي أنه يقدّم الخدمات فقط لنسبة لا تزيد في أعلى التقديرات عن ثلثي السكان إذا أخذنا في الحسبان النزوح الداخلي إلى مناطق سيطرته. ضمن النسب الحالية، هناك تراجع كارثي في كمية الخدمات المقدّمة للسكان، وتراجع كارثي في نوعيتها، فقطاعات أساسية مثل الصحة والتعليم تشهد تدهوراً مطرداً في بناها التحتية ومواردها البشرية، فضلاً عن تراجع كافة القطاعات الصناعية أو الخدماتية الأخرى إن لم يكن بفعل التدمير فبفعل غياب القدرة على صيانة المنشآت والانقطاع المستمر للطاقة الكهربائية. لا ننسى هنا أن جزءاً من المعونات تلقاها النظام من الهيئات الدولية لإغاثة اللاجئين، وإن شاب توزيعها على مستحقيها شبهات كبيرة أو أدلة على عدم وصولها إليهم. الأدهى مما سبق هو إعطاء الضوء الأخضر لقوات النظام وشبيحته ليقوما بسلب وسرقة المقدرات الاقتصادية، ما شكل اقتصاداً رديفاً، غير منظور، يعتمد عليه النظام لتمويل شبيحته وقوات نخبته، وهذه الظاهرة مرشحة للتفاقم والبقاء طويلاً، سواء فيما إذا استمرت الحرب الحالية، أو إذا ما مُكّن النظام من البقاء على نحو ما. طبقة الشبيحة والنخبة من القوات، التي تعتاش اليوم إلى حد كبير على السلب والنهب، هي القاعدة الأعرض للنظام، والتخلص منها ليس بالأمر السهل. لقد تطلب مثل ذلك حوالى عقد من الزمن من الأسد الأب الذي رعى ظاهرة أمراء الحرب أثناء مواجهته «الإخوان المسلمين»، ولم يتمكن من تحجيمهم إلا متأخراً وتحت ضغط مشروع توريث الحكم، مع التنويه بأن حجم الظاهرة آنذاك لا يتعدى نسبة بسيطة من حجمها الحالي.

في السياسة لا يختلف الوضع أيضاً، إذ لا يخفى أن اللمحات السياسية الوحيدة، التي أتت منذ بدء الثورة كانت بضغط من الحلفاء الروس أو الإيرانيين، ولعل أهم ما كشفت عنه الثورة، الانعدام التام للأفق السياسي للنظام. نحن بالأحرى أمام نظام خارج السياسة تماماً، وحتى بعض الهدن التي أبرمت خلال الأشهر الماضية في مناطق ساخنة كانت برعاية أو ضمانة إيرانية مباشرة، أي أننا أمام نظام غير قادر حقاً على مفاوضة «شعبه»، وعلى الوصول إلى تسويات صغيرة ومؤقتة معه، فضلاً عن انعدام الثقة التام به من خلال التجارب الماضية. لقد كذب النظام دائماً ومراراً فيما خص تعهداته تجاه الداخل، لكنه كذب مراراً فيما خص تعهداته الدولية، بدءاً من دوره المزدوج في الإرهاب داخل العراق، بُعيد الإطاحة بصدام حسين، انتهاء بالكذب في ملف الأسلحة الكيماوية. ولا شك أن أي نظام مجرم إذا كان قابلاً لإعادة التأهيل فيجب أن يتمتع أولاً بالمصداقية الكافية، إلا إذا كنا أمام جهات لا تتمتع بدورها بالمصداقية الكافية لإنجاح مشروعها في تأهيله.

 

لقد كان أهم ما أثبتته القوى الدولية خلال السنوات الثلاث الأخيرة هو عدم استعدادها لتحمل الكلفة الجيوسياسية لإسقاط نظام الأسد نهائياً، غير أن إنعاش النظام بمختلف السبل أثبت فشله لكل من يودّ قراءة الواقع السوري على حقيقته، هذا لا يعني انتفاء السبل لإقرار تسوية تاريخية في سوريا، على أن تبدأ فعلياً من الإقرار باستحالة العودة إلى كل ما تسبب بالثورة، وباستحالة قدرة النظام نفسه على التغيير. من المرجح أن حلفاء النظام أكثر من يعي عجز النظام، لذا لا يتهاونون في إصرارهم على بقاء رموزه الأساسية كي لا ينهار دفعة واحدة.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى