صفحات سورية

في توظيف المظلمة لنصرة الظالم/ عاصم ترحيني

 

 

في رسالة وجهها مفتي سورية، الشيخ بدر حسّون، للمقاتلين “الشيعة”، كما وصفهم، على جبهات نبّل والزهراء، القريتين اللتين تحاصرهما في شمال سورية منذ فترة طويلة، العصابات التكفيرية أو “السنية”. ولكم يتناقض هذا التوصيف الضيّق والمجحف للبشر، سواء على أساس الدين أو المذهب، أم على صعيد النسب، أو المرتبة الاجتماعية، أو العرق، أو القومية أو الجنس أواللون، مع إنسانية الإنسان، فيفاقم أسباب العصبية التي ليس لها سوى مردود واحد، هو إلغاء الفرد وهويته الفردية. وبالتالي، إلغاء التنوّع لدى الجماعة، نسيجاً ثقافياً وحضارياً وتاريخياً، لمصلحة منظومة بطريركية، توظّف الفرد في خدمة ثلّة من الأباطرة وحاشيتهم.

والمثير للسخرية والسخط أن للطرف الآخر، أيضاً، رسائله وأدبياته التي تتشابه إلى حد التماهي ورسالة المفتي حسون، في أدواتها وغاياتها ووظيفتها وإنتقائيتها وتحويرها الرواية أو الحدث التاريخي لخدمة المعركة القادمة، ولا اختلاف فيها إلا بأسماء أبطال الرواية.

يقارن الشيخ حسّون بين قبري الإمام الشهيد الحسين بن علي ويزيد بن معاوية، حيث ما زالت الجموع تحيي، عند ضريح الأول، ذكر أهل بيت رسول الله المظلومين، بينما يخلو قبر يزيد من الزوار، ويزيد هو الذي بات مضرب المثل بظلمه وبطشه، وهنا تتجلى عدالة التاريخ، كما يؤكد الشيخ.

لكن الحكمة التي لم يدركها الشيخ، والكثيرون مِمَّن نسبوا نهجهم إلى الإمام الحسين، أنه نَصَرَ المظلوم على الظالم، وخرج طالباً العدل في أمة جده لا الاستبداد، والشراكة لا الإلغاء، كما لم يدرك الشيخ أن عبرة الحدث ليست بتقديس الأفراد، على الرغم من أهميتهم عند العقائديين الكلاسيكيين والمتدينين والمؤدلجين على النمط الستاليني. فبذلك، تتحوّل العبرة إلى صنمية وعبادة للنص، تجهض أبعاد الحدث، فيصبح لعنة أو مادة للثأر والانتقام. كما أنها تضحي بمثالية المأثور، وصيانته من الإضافات الشخصانية والمزاجية والظرفية، وبالتالي، حرمانه من عملية إخضاعه للنقد، أو التفكيك، فالإرتقاء نحو فكرة الأنسنة الأسمى.

وبالتوازي مع الشيخ حسون، يستحضر الآخر لمناسبة أخرى، معركة أُليّس، أو معركة نهر الدم، التي دارت بين العرب، بقيادة خالد بن الوليد، والفرس، بقيادة جابان، وانتهت بهزيمة ساحقة للفرس، فينبئنا بضرب الأعناق والرقاب، فتتدفق دماء “الكفار” أنهاراً فوق رمال الصحراء. وهو كلام باتت له مبرراته وتأويلاته، في أدبيات هذه الفئة إلى درجة التطبيع، حتى أن مثقفين ومحللين كثيرين خلعوا رداء الأنسنة، وباتت غايتهم أنسنة إبليس، وتبرير الخراب والقتل العشوائي والتهجير، باعتبارها دفاعاً عن المصلحة العامة.

الغريب أننا، نحن أهل المشرق، أهل الأديان، لم نتعظ من تاريخنا، وكأننا على عداء معه، ونعاند إدخاله ضمن منظومة النقد التي تسقط المقدسات، لكي نناقش التفاصيل والشوائب بهدوء وموضوعية، لعلّنا بذلك نستيطع الإجابة عن أسئلة العدالة والحق والمواطنة.

ختاماً، من المهم الإشارة إلى أنه، في جنازة أول المنورين والمتنورين وأحد المجددين في الفكر الإسلامي، الشيخ جمال الدين الأفغاني، لم يمشِ سوى عدد لا يتجاوز أصابع اليد من الناس، إما لعدم إدراكهم أهميته، أو خوفاً من العسكر، لكن فكر الأفغاني أصبح ركناً أساساً في الدراسات والأبحاث في الوحدة الإسلامية، ومرجعاً لا يستهان به في التقريب بين الأديان. وربما سنقرأ في كتب التاريخ، يوماً ما، عن ظالم جعل من شعبه جنازاتٍ تمشي خلف جنازات، اسمه بشار الأسد، وعن مجانين غزوا بلادنا تحت شعار الخلافة، وما هم سوى عابرين في تاريخ الأفراد والجماعات، ويبقى الثابت الوحيد الإنسان وحريته، أما أعمار الطغاة فقصار.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى