صفحات سوريةغالية شاهين

في ثقافة التلقي الأعمى/ غالية شاهين

 

 

بعد أكثر من أربع سنوات من عمر الثورة السورية، وما يزيد عليها من عمر الربيع العربي، لم نزل نبذل جهداً كثيراً في محاولة إقناع أحدهم بأن يشكك، لحظات فقط، في ما وصل إليه من قناعات واهمة، يطغى عليها الجمود المطلق في الرؤية تجاه مفاهيم كثيرة.

هي ثقافة مكتسبة عقوداً، تتمظهر بتبني آراء جاهزة، من دون تكليف النفس عناء التشكيك المتعب لكثيرين، ومن دون تقديم أي جهد للنقاش أو التحليل. ثقافة تربت عليها الشعوب العربية، وما زالت تصر على تبنيها على كل الأصعدة. وقد يكون المبرر الأوضح لوجود هذه الثقافة التجهيل الممنهج المتبع من الحكومات العربية عقوداً، إضافة إلى تكريس الخمول الفكري والنقدي لدى شعوبها، لتضمن بذلك بقاءها تحت السيطرة. وقد استخدمت لهذا الغرض كل الطرق الممكنة، ابتداء من التوجيه المدروس للإعلام وحصره فترة طويلة جدا بجهة واحدة، مع منع تعدد المصادر الذي يلغي حالة المقارنة على الأقل، وانتهاء بأهم ركن من أركان تنمية الشعوب، وهو التعليم. حيث عمدت الحكومات العربية، في معظمها، بتطبيق سياسة التعليم التلقيني وإلغاء حالة البحث والتحليل من كل المناهج الدراسية، وفي كل المراحل الدراسية، حتى الجامعية منها غالباً.

فقدان تعدد المصادر والتعود على نمط تفكير “المتلقي” كوّن، على مدى سنوات، ثقافة حقيقية راسخة ظهرت نتائجها جلية تماماً، عندما بدأت البلاد، بوجود الثورات، تمر عبر مراحل، تكون فيها أحوج ما تكون إلى التحليل والنقد والتخطيط وبناء الاستراتيجيات. وهو ما تفتقده الشعوب العربية حتى الآن. فما زال الحراك الثوري (الشعبي طبعاً وليس المؤدلج دينيا عبر التنظيمات المتشددة) يتحرك بموجب الاندفاعات العفوية وحالة رد الفعل، في غياب شبه تام، وعلى مستويات المعارضة كافة، للعمل المنظم المدروس والمخطط، وبرؤية محكومة بالنمط نفسه من حالة التلقي، على الرغم من تغير الجهات الموجهة حاليا.

أحد أهم نتائج التلقي الأعمى ميل المتلقي إلى إطلاق أحكام عامة، وحادة في الوقت نفسه، واتّباع فكرة التعميم المدمِرة، والتي ظهرت مقتلاً حقيقياً في معظم البنى الثورية، وخصوصاً في سورية. ولعل أوضح أشكالها التعميم الطائفي والحكم على مواقف الأشخاص، من خلال انتمائهم المذهبي أو القومي، من دون أي محاولة لإيجاد معطيات أو معلومات تدين شخصا ما أو تبرّئه. فيميل سوريون كثيرون، من كل الأطراف والمكونات، إلى تبني أحكام مطلقة على المكوّن “الآخر”، فيصبغه بصبغة الموالاة، او دعم النظام، أو الكفر، أو التشدد والتطرف، أو حتى الإرهاب. كل حسب انتمائه الضيق لطائفة أو قومية معينة.

نجحت جهات عدة باستخدام ثقافة التلقي الأعمى لاستقطاب كثيرين باتجاهات معينة، من دون إدراك منهم حقيقة ما يذهبون إليه. وفي الوقت نفسه، أوقعت سياسة التعميم البلاد بفِتنٍ ونزاعات مختلفة، لم تكن في مصلحة أحد غير النظام، ولم ينتج عنها سوى التوتر والتمترس أكثر حول الآراء الجامدة. وبالتالي، الابتعاد، ولو جزئيا، عن حقيقة الثورة.

منذ بداية حكمه، كان النظام الأسدي، كغيره من الأنظمة الدكتاتورية، مدركاُ أهمية هذه النقطة بالذات في المراهنة على استمراره. وقد قام عبر وسائله التلقينية نفسها بزرع هذه الهواجس وترسيخها لدى جميع المكونات، بشكل تدريجي غير معلن، حيث كان ينفخ السم في كل وجبات معلوماته المقدمة للشعب السوري، مع تمرير آراء جاهزة وشعارات جوفاء تلقفها المتلقي السوري، من دون مناقشة أو تشكيك، لتشكل فيما بعد دافعا مبهما لخوف غير مبرر من الآخر الشريك في الوطن.

قد يتطلب الأمر عقودا أخرى من المحاولات الحثيثة للشريحة الواعية لهذه المشكلة، وبوجود جو مناسب مفتوح على كل الطروحات والآراء، لتفتح الشعوب العربية نوافذ عقولها وتشرعها لرياح التجديد الذي، إن لم يستطع أن يطال البنية الثقافية وآلية التفكير لهذه الشعوب، فإنها ستبقى عالقة في عنق الزجاجة الضيق، عقوداً طويلة مقبلة.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى