حسين عبد العزيزصفحات سورية

في جدوى مفاوضات جنيف/ حسين عبد العزيز

 

 

ارتباك دولي

سلة الدستور

عقبات عدة

تحولت اجتماعات جنيف السورية إلى ما يشبه المارثون الاستعراضي الخالي من أي أفق سياسي في ظل التباين الحاد بين طرفيْ المفاوضات المحلييْن، والتباين ذاته إلى حد ما بين الراعييْن الكبيريْن الولايات المتحدة وروسيا.

لكن مفاوضات “جنيف 6” جاءت هذه المرة في ظل تطورين جديدين كان يمكن أن يدفعا بها قُدُماً إلى الأمام، وهما: الضربة العسكرية الأميركية لمطار الشعيرات وما رافقها من تصريحات سياسية أميركية شكلت قطيعة مع المرحلة السابقة، واتفاق المناطق الآمنة الأربع الذي أطلقته روسيا. ورغم هذين التطورين المهمين فقد تعذر حصول اختراق سياسي في جدار جنيف لأسباب سيفصلها هذا المقال.

ارتباك دولي

بدا واضحا منذ مطلع العام الماضي وجود توجه دولي الفصل الحاد بين المستويين السياسي والعسكري بـسوريا، بحيث يؤدي وقف إطلاق النار إلى تعزيز المسار السياسي، والنجاح في المسار الأخير من شأنه أن يساهم في تعزيز الهدنة العسكرية.

هذه كانت الخلاصة التي توصل إليها وزير خارجية الولايات المتحدة السابق جون كيري ونظيره الروسي سيرغي لافروف في اجتماع “فيينا 2” منتصف نوفمبر/تشرين الثاني عام 2015. لكن سرعان ما انهار “جنيف 3” وانهار وقف إطلاق النار بسبب التباينات الروسية الأميركية من جهة، وبسبب خروق النظام السوري من جهة ثانية.

ومع دخول الولايات المتحدة سُباتها السياسي بسبب الانتخابات الرئاسية نهاية العام الماضي، عقدت روسيا صفقة عسكرية/سياسية مع تركيا، أطلق على أثرها اتفاق ثانٍ لوقف إطلاق النار (9 سبتمبر/أيلول)، لكن هذه المرة من دون الولايات المتحدة.

وبناء على هذا الاتفاق حددت الأمم المتحدة 23 فبراير/شباط موعدا لإطلاق جولة جنيف بنسختها الرابعة، لكن هذه الجولة سرعان ما انهارت بسبب انهيار وقف إطلاق النار.

وفي محاولة لمنع طغيان الواقع الميداني على المسار السياسي؛ قررت الأمم المتحدة عقد جولة خامسة من المفاوضات في 24 مارس/آذار انتهت بالاتفاق فقط على تشكيل ما سُمي “السلال الأربع”، وهي قضايا: الحكم والدستور والانتخابات ومكافحة الإرهاب.

وما أن توافقت موسكو مع أنقرة وطهران على تطبيق اتفاق المناطق الأربع الآمنة في “أستانا 4″، حتى حدد المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا يوم 16 مايو/أيار الجاري موعدا لإطلاق “جنيف 6”.

جاء إعلان دي ميستورا متسرعا جدا، ولم يأخذ بالاعتبار التجارب السابقة حيث فشلت جولتان من المفاوضات بسبب عدم وقف إطلاق النار، وكان عليه الانتظار ريثما يتم إيجاد آليات لتثبيت وقف النار، وتحديد خطوط التماس بين جبهات المعارضة والنظام، ومعرفة هوية القوى التي ستناط بها مراقبة تثبيت الهدنة العسكرية للحصول على ضمان أمثل لإطلاق مفاوضات جنيف السياسية.

فضلا عن ذلك، عُقدت الجولة السادسة وسط غياب للتفاهم الروسي/الأميركي حيال الحل السياسي، وجاء توقيت كشف واشنطن عن مجزرة ارتكبها النظام بحق المعتقلين في صيدنايا دليلا على ابتعادها عن مفاوضات جنيف، ومحاولة منها لإرباك الروس الذين يضعون ثقلا كبيرا لإحداث اختراق سياسي يكمل اختراقهم الميداني في “أستانا 4”.

هذه المعطيات توضح حالة الارتباك في المواقف الدولية: الولايات المتحدة لم تصل إلى مرحلة تقديم رؤية ناضجة للحل السياسي في سوريا، ولم تعطِ بعدُ أولوية لمسار جنيف، وهذا ما بدا واضحا من غياب ممثل أميركي في المفاوضات، على عكس “أستانا 4” التي رفعت الولايات المتحدة مستوى تمثيلها فيها إلى مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط.

وكما فعلت موسكو مطلع العام الماضي؛ تعمل واشنطن على ترتيب الوقائع الميدانية قبيل الانتقال إلى المستوى السياسي، بمعنى أن واشنطن لن تكون مهتمة بأي انتقال سياسي في سوريا قبل انتهاء الحرب مع تنظيم الدولة الإسلامية.

أما روسيا فهي تبحث عن مساربها الخاصة، فتقترب من الولايات المتحدة حينا وتبتعد عنها أحيانا على أمل بلورة وقائع عسكرية/سياسية تكون قاعدة للانطلاق منها نحو التسوية الكبرى، لكن في طريقها هذا تعاني روسيا ارتباكا واضحا، سواء في اتفاقيات الهدن المبرمة أو في طروحاتها السياسية التي تقدمها.

وبين موسكو وواشنطن، تشق الأمم المتحدة طريقها الخاص عبر مبادرات ومقترحات متعددة، في محاولة لإحداث خروق تفاوضية وإن كانت بسقوف منخفضة.

سلة الدستور

شكلت جولة “جنيف 6” انعكاسا للواقع الدولي حيال الأزمة السورية، فالتركيز على “سلة الدستور” في موازاة بحث ملف المعتقلين والمختطفين، قد يكون مؤشرا أمميا على الجمع بين مخرجات أستانا ومخرجات جنيف.

ويعني ذلك مزاوجة الطرح الروسي مع الطرح الأميركي الخجول، وربما محاولة من دي ميستورا للهرب من السلال الشائكة والمعقدة، مثل “سلة الحكم” التي تعتبر أكثر السلال تعقيدا لكونها تتعلق بتقاسم السلطة ومتطلباتها، مثل إعادة ترتيب وهيكلة المؤسستين الأمنية والعسكرية.

لكن بعد سحب المبعوث الأممي مقترحه حول “آلية التشاور”، تبين أن هذا المقترح ليس ناجما عن تفاهمات أممية مسبقة، بقدر ما هو اجتراح من المبعوث شخصيا، متأثرا في ذلك بالرؤية الروسية التي تسعى منذ فترة إلى بحث أولوية الدستور، وجعله مرجعية ناظمة وإطارا قانونيا للمرحلة الانتقالية بما فيها آليات وتفاصيل الحكم.

المقاربة الروسية حيال هذه المسألة يمكن تلخيصها على النحو التالي: إن كتابة إعلان دستوري بُعيد تشكيل هيئة الحكم، يعني من الناحية العملية والقانونية تشريع الواقع الانتقالي وآليات الحكم فيه بسلطاته الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية)، في حين أن وضع الإعلان الدستوري أولا سيجعل المرحلة الانتقالية وآليات الحكم فيها محكومة بمرجعية دستورية محددة.

الفرق بين الرؤيتين كبير جدا، بالنسبة للمعارضة ليس الدستور معنيا بتحديد تقاسم الحكم، بقدر ما هو معني بشكل الحكم ومضمونه، في حين يسعى النظام وروسيا إلى جعل الحكم -من حيث التوزيع والشكل- محكوما بالمرجعية الدستورية (دستور على طريقة النظام وروسيا).

ويبدو أن سحب دي ميستورا لـ”آلية التشاور” الخاصة بالدستور جاء ليس فقط بسبب اعتراضات المعارضة، وإنما أيضا بسبب اعتراضات دولية وخصوصا من واشنطن التي تتابع المفاوضات بطريقة غير مباشرة. ذلك أن التركيز على الدستور والحديث عن مؤتمر للحوار الوطني سيشتت الانتباه عن جوهر الأزمة، التي هي ليست دستورية بالأساس.

ليست المشكلة متعلقة ببحث “سلة الدستور”، بل هي متعلقة في ألا تصب الإجراءات الدستورية والقانونية في خدمة عملية الانتقال السياسي وتشكيل هيئة الحكم الانتقالي.

وبناء على ذلك؛ على المعارضة الانتباه والحذر من الوقوع في فخ ترتيبات دي ميستورا، حيث تجب مناقشة السلال بالتوازي وعدم الغرق في تفاصيل سلة واحدة بمعزل عن الأخرى، على أن يكون هناك فصل تام بين نتائج المفاوضات والتطبيق الفعلي على أرض الواقع.

وبعبارة أخرى، يجب الالتزام بالتراتبية التي حددتها الفقرة الرابعة من القرار الدولي 2254 الذي يشكل المرجعية الأساسية للحل في سوريا، أي البدء في تطبيق السلة الأولى (الحكم) على أرض الواقع، وهو ما أكده دي ميستورا شخصيا لوفد المعارضة في “جنيف 5”. ولم تكن مصادفةً أن يتم وضع أولوية الحكم في الجدول الزمني، إذ لا يُعقل وضع الدستور أو قانون الانتخابات قبيل البدء في تنفيذ المرحلة الانتقالية.

عقبات متعددة

ثمة عقبات كثيرة تواجه إمكانية الوصول إلى حل سياسي حقيقي في سوريا، وبعيدا عن موقف المجتمع الدولي بشكل عام والأميركي بشكل خاص؛ لا يزال النظام السوري يتعامل مع الأزمة بلغة السلاح، ويرفض من حيث المبدأ أي استحقاق سياسي، لما سيؤدي إليه ذلك من ترتيبات تقلص سلطاته.

وأمام هذا الموقف اضطرت المعارضة إلى رفع السقف السياسي وعدم المطالبة بأقل من إزالة النظام بالكامل، مع تطبيق صيغة “جنيف 1” المتعلقة بهيئة الحكم الانتقالية ذات الصلاحيات التنفيذية الكاملة.

وهاتان الرؤيتان لا تستقيمان مع التوجهات الدولية التي تقف في المنتصف، من حيث إنه لا إمكانية لمنح المعارضة سلطة حكم كاملة وتغيير كامل في النظام، ولا إمكانية لإعطاء النظام سلطة كاملة وبقاء في الحكم، ولا انتصارا عسكريا حاسما.

والبند السادس من الوثيقة التي قدمها المبعوث الأممي في جولة “جنيف 5” السابقة يبين أن التغيير سيكون تدريجيا، إذ ينص على “استمرارية عمل الدولة ومؤسساتها العامة وتحسين أدائهما، مع إجراء إصلاحات وفقاً لما تقتضيه الضرورة”. لقد جرى انزياح في المواقف الدولية خلال الفترة الماضية، وتم على أثر ذلك استبعاد المهل الزمنية التي شدد عليها القرار الدولي 2254.

ثانية العقبات، غياب وقف مستدام لإطلاق النار في ظل قناعة النظام بأن حل الأزمة السورية يكون على طاولة أستانا وليس في جنيف، وقد أعلن الأسد أن مفاوضات جنيف ليست سوى لعبة إعلامية.

وبينت الأشهر السابقة كيف أن النظام يستغل اتفاق وقف إطلاق النار الجزئي لاستكمال مخططاته العسكرية، وتحييد ما يريده من المناطق الجغرافية عن الاتفاق، وهذا أمر إن استمر فإنه سيفجّر مفاوضات جنيف ويعيد الأمور إلى مربعها الأول.

على أن العقبة المؤجلة تتمثل في الخلافات داخل صفوف المعارضة، التي بدت ملامحها في الظهور في أكثر من مناسبة بما فيها الجولة الأخيرة “جنيف 6”. إذ قرر ممثلو الفصائل العسكرية الانسحاب منها بسبب “عدم وضوح المرجعية والتخبط في اتخاذ القرار، وعدم وجود إستراتيجية تفاوضية، والعلاقة بين الهيئة العليا للمفاوضات وبين الوفد المفاوض الرئيسي التي لا تصب في مصلحة الثورة”.

المشكلة أن وفد الهيئة العليا يضم في داخله تيارات سياسية متوافقة إلى حد ما، لكن ثمة خلافات بينها لم تظهر بعد لأن العملية التفاوضية لم تدخل مرحلة متقدمة.

أما خارج وفد الهيئة، فالخلافات معروفة بينها وبين منصتيْ موسكو والقاهرة، ففي حين تبدو المنصة الأولى متماهية مع الموقف الروسي، تحاول الثانية تمييز نفسها عن منصة موسكو والهيئة العليا عبر تقديمها طروحات توصف بالواقعية.

باختصار؛ لا تبدو مفاوضات جنيف مؤهلة في المدى القريب والمتوسط من إجراز تقدم ما، وقد يتطلب الأمر -بناءً على المعطيات السابقة وعلى بطء المفاوضات- عقد عشرات أو ربما مئات من الاجتماعات في جنيف للوصول إلى التسوية المطلوبة. قد تبدو هذه رؤية عدمية.. لكنها تتسم بالواقعية.

جميع حقوق النشر محفوظة، الجزيرة

2017

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى