بيسان الشيخصفحات المستقبل

في خصي الطوائف لبعضها

بيسان الشيخ *

بعد استباحة الأعناق جاء دور الأعضاء. هو القتل بالتجزئة، ذاك الذي يخنق الروح بانتقاص جسدها وقتل أدواتها الملموسة. عنف فردي يصيب الجماعة في وجدانها متخطياً، لشدة رمزيته، ضحيته المباشرة. فكأن اليد التي حملت سكيناً مشحوذاً وبترت عضو رجل مستعينة بسواعد آخرين، إنما ارادت خصي مجموعة كاملة، وفي هذه الحالة طائفة، ينتمي اليها هذا الشاب. ففي تلك الفعلة ما يشبه انزال حد جديد، اجتماعي هذه المرة، بمن تجرأ على كسر النمط السائد بالزواج من خارج طائفته. فكأنها عقوبة أُضيفت إلى الحدود الدينية القاضية بقطع يد السارق، وعنق القاتل، وتلك السياسية التي تبتر اصابع رسام أو تنتزع حنجرة منشد. انه قتل لأدوات الفعل نفسه وما يحمله هنا عضو الشاب من رمزية في زواجه، مستمداً شرعيته (اي القتل أو البتر) لا من النصوص الدينية أو العقيدة السياسية وإنما من قيم مجتمعية سائدة كالشرف والكرامة. وهي للمفارقة القيم نفسها التي استباحها الجناة عندما استدرجوا الشاب (سنّي) وزوجته (درزية) الى مجلس صلح، فإذا به كمين لقتله معنوياً وقتلها جسدياً.

والواقع أن تلك الجريمة التي روّعت اللبنانيين هي الثانية في اقل من أسبوع، وتأتي بعد مقتل سيدة (مسيحية) تحت تعذيب زوجها وضربه المبرح. وفي وقت استنفرت الحادثة جهود الجمعيات الحقوقية والنسوية ودفعت باتجاه الضغط لإقرار قانون العنف الاسري، لم يعرف بعد تحت أي خانة تُدرج الجريمة الاولى. فلا جمعيات تدافع عن الرجال، فكيف بأعضائهم في وقت لطالما ارتبطت صورة الضحية بالأنثى لا بالذكر.

وإذ تعالت أصوات كثيرة ضد اعتبار الجريمة الثانية «طائفية» وفضلت الاختباء خلف مسمّيات عامة من قبيل «حادثة فردية»، وأن العنف عابر للطوائف وغير ذلك من المبررات، يبقى أن نزع الصفة الطائفية عنها غير منطقي، تعززه فكرة قطع عضو الشاب وليس عنقه.

والحال أن العنف في لبنان بصيغته الفردية التي نشهدها، بات بالفعل عابراً للطوائف والجماعات، لكنه ايضاً وجه من وجوه الاحتقان السياسي وانكماش الجماعات على بعضها وتقوقع أفرادها في دوائرهم الضيقة. ففي بيئة تعرف الجماعات واستطراداً الافراد، فيها وفق الانتماء الطائفي والمناطقي وليس الطبقة الاجتماعية أو المستوى التعليمي أو التخصص المهني أو التكتل السياسي، في تلك البيئة، يتخذ العنف أيضاً وجهاً طائفياً بحيث يصبح بتر العضو بمثابة رسالة لكل سنّي بعدم الاقتراب من درزية.

يضاف الى ذلك كله، تقهقر سلّم القيم العامة وإعلاء مفاهيم القوة والتسلط، فيصبح الساعد أقوى من المنطق، والسلاح أعلى من القانون و «الفتوة» فوق الشرطي. يكفي أن من اقدم على تلك الفعلة لا يحسب حساباً ضمنياً ولو ضئيلاً للعقاب أو المحاسبة. وتلك كلها نزعات في تمجيد القوة الجسدية تعود الى ما قبل أزمنة الدولة الناظمة لعلاقات الافراد والجماعات.

وبهذا المنطق نفسه، يتنطح نواب المناطق المخـتلفة التي ينتمي اليها أبطال فصول العنف تلك، للدفاع عن الجاني ضد الضحية. فنواب الجبل وقـادتـه الروحيون، وإن اسـتنـكروا الـعمل المشــين بجزئيته، لم يرق بيانهم الى حد التـنديـد بالحـادثـة نفسها. فاعتبروا أن «للـطائفة الدرزية خصوصياتها وتقاليدها». كذلك فعل نواب مسـيحيون وسنـّة يفـترض أنـهم يـمثلـون منـطـقة السيدة التي قتلت على يد زوجها، إذ ضغـطـوا لتـغيـير إفادة الطبيب الشرعي وتوسطوا لإفلات الجاني من العقاب.

إنها ثقافة العنف والتفسخ الاجتماعي والأخلاقي التي لن تتصدى لها زيجات مختلطة كثيرة ولا تجمعات مدنية عابرة للطوائف مهما نشطت. فالأخيرة وإن بدت بادرة امل، تبقى ضئيلة ومقتصرة على دوائر ضيقة ونخب مدينية ولا تصل الى العفن الضارب في قاعنا.

*صحافيّة من أسرة «الحياة»

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى