صفحات الناس

في دمشق.. أبناء ديرالزور “المنسية”/ مجد الخطيب

 

 

أبرز ما يلفت المتجول عند اقترابه من ساحتي المرجة والحجاز، في مركز العاصمة السورية، الصبغة “الديرية” التي أصبحت طاغية على ملامح المنطقتين الدمشقيتين. في “قهوة الدير” وسط ساحة المرجة، يجلس أبو عقاب مستريحاً من رحلته الطويلة، بعدما اختار منطقة الساحة مكاناً مؤقتاً لإقامته كباقي القادمين والنازحين من ديرالزور والموزعين على فنادق المرجة والحدائق المجاورة. كثافة أهالي ديرالزور في ساحة المرجة صبغتها بلون مختلف، فأصبحت قهوة الدير، أحد أهم معالم الساحة الدمشقية.

محمد الهنداوي، 42 عاماً، الذي يدير القهوة الصادحة بأغاني المنطقة الشرقية الشبيهة بمزاج الطرب العراقي، يقول لـ”المدن”، إن القهوة تعود إلى العام 1992، وتعد المعلم الأبرز لأهالي الدير في دمشق، ففيها يستريحون بعد عناء السفر الطويل، ويلتقون بمن يودون رؤيته في العاصمة، كما أنها تعد المكان الأقرب لإقامتهم في الفنادق المتناثرة على أطراف الساحة.

وإن كان أحد لا يستطيع شرح سبب الإقبال الديري، تاريخياً، على المرجة والحجاز، فالهنداوي، يُعيد ذلك حالياً، إلى انخفاض تكاليف الإقامة فيهما، فتبلغ كلفة السرير في الليلة الواحدة ما يقارب 3 آلاف ليرة سورية، في غرفة مشتركة. في حين يُفضل عديد من الأهالي قضاء وقتهم على مقاعد الحدائق العامة.

وبالإضافة إلى ذلك، فقرب المنطقة من أهم المراكز الحيوية في العاصمة، تجعل لها وقعاً خاصاً لدى أولئك المرتحلين من مسافات شاسعة، ويهولهم التنقل في العاصمة، والمرور على الحواجز فيها. فمبنى الهجرة والجوازات في البرامكة، يقع على مسافة “ضربة حجر”، وكذلك مشفى الأطفال ومشفى المواساة والأورام، وهي أبرز المواقع التي يقصدها أهالي الدير في دمشق.

رحلة كل طويل عمر

الجلوس في “قهوة الديرية” في المرجة أو “قهوة أهالي الدير” في الحجاز، يُشكل فرصة لسماع عشرات القصص المأساوية عن معاناة أهالي المحافظات الشرقية في الوصول إلى دمشق، التي أصبحت قصية عصية عليهم لا يصلها “إلا كل طويل عمر”، بحسب لهجتهم الدمثة.

أبو عمر، 63 عاماً، بدأت رحلته من حي الجورة آخر معاقل النظام في ديرالزور، منذ أيار/مايو، بعدما أشار أطباء “مشفى الأسد” في الدير، إلى ضرورة تحويله حفيده إلى دمشق، لاستكمال العلاج. عندها قدم أبو عمر إلى “الأمن العسكري” بهدف الحصول على “موافقة” لمغادرة الدير التي يُحاصرها تنظيم “الدولة الإسلامية”. “الأمن العسكري” رفض طلب أبو عمر، لثلاث مرات متتالية. وبعد شهر من مراجعة الفرع الأمني والمفاوضات، سُمحَ لأبو عمر بمغادرة الدير، بطائرة مروحية لقوات النظام، بعد دفع 450 ألف ليرة سورية..”وتم نقلنا إلى مطار القامشلي لنسافر بعدها إلى مطار دمشق”.

أما بالنسبة لأهالي الدير المقيمين في مناطق يسيطرعليها تنظيم “الدولة الإسلامية” فإن السفر إلى دمشق يًعتبر أكثر مشقة وصعوبة. الناشط مازن الحماد، قال لـ”المدن”، إن خروج أهالي ديرالزور إلى دمشق يخضع للابتزاز من قبل رجال التنظيم، الذين لا يسمحون للأهالي بذلك إلا بعد موافقة من “الهيئة الطبية” التابعة للتنظيم، وفي كثير من الأحيان يُمنع خروج الأهالي إلى دمشق ويتم تحويلهم إلى “ولاية الموصل” في العراق، خوفاً من عدم العودة إلى ديرالزور.

ويضيف الحماد: “وفي أحيان كثيرة يكون هذا للابتزاز المادي، حيث يتم توجيه المسافر إلى دمشق بعد أخذ ما يقارب ألف دولار كرشوة، ولمدة محددة وإلا يتم الاستيلاء على منزله إذا انقضت المدة المحددة من دون عودة المسافر”. في حين تلجأ كثير من العوائل إلى الخروج من مناطق سيطرة التنظيم، من دون أخذ إذن رسمي، ما يضطرها لسلوك طرق عبر البادية.

قوافل الخارجين من سيطرة تنظيم “الدولة” باتجاه دمشق تسلك طريق بادية البوكمال، ومنها تنعطف إلى منطقة البطمي، بالقرب من مدينة الضمير، حيث يوجد أول حواجز النظام. مصادر من “الهلال الأحمر” في دمشق، قالت لـ”المدن” إن عدد الذين أرادوا الدخول إلى دمشق عبر طريق البادية، يُقدر بـ1250 شخصاً، تم احتجازهم بالقرب من الضمير، قبل أن يتم توزيعهم على معسكرات بالقرب من الحرجلة في غوطة دمشق الغربية، و”مدرسة السواقة” في مدينة “عدرا العمالية” الواقعة على أبواب دمشق. ولا تسمح قوات النظام لأولئك بالدخول إلى دمشق، وخلال الأسبوع الماضي لوحده، وصل إلى المخيم 250 شخصاً.

مصادر من فريق “المياه والإصحاح” في “الهلال الأحمر” بريف دمشق، وهو الفريق المسؤول عن  تجهيز مراكز الإيواء للنازحين، أوضحت أن أوضاعاً إنسانية حرجة يعانيها النازحون، فتتم مصادرة كل ما يملكونه من أموال وأوراق ثبوتية ووسائل اتصال، ويمنعون من الخروج، وتكون هذه المباني تحت سيطرة “الأمن العسكري” مباشرة. وأضافت المصادر أنه تم تسجيل حالة انتحار خلال الشهر الماضي في “مدرسة السواقة” في “عدرا العمالية” نتيجة الظروف الإنسانية السيئة التي يعيشها المحاصرون هناك الممنوعون من دخول دمشق.

دمشق الطبابة

صعوبة الدخول إلى دمشق نتيجة الإجراءات التي يتخذها كل من النظام وتنظيم “الدولة الإسلامية” ضد أهالي الدير، لم تمنع العديد منهم من الوصول إلى العاصمة، التي يقصدونها لتوفر الخدمات الطبية فيها. وقدرت مصادر طبية في “مشفى الأطفال” في دمشق، لـ”المدن”، أن 32 في المئة من الأطفال المرضى في المشفى هم من ديرالزور. المصادر أشارت إلى اصطفاف مئات الأشخاص الذين يريدون إدخال أطفالهم لتلقي العلاج، عند مكاتب القبول، منهم ما يقارب النصف، من منطقة الجزيرة السورية. وأضافت المصادر: “لدينا الآن 340 سريراً في المشفى منهم 135 يشغلها أطفال ديرالزور، أغلبهم يعانون من أمراض جلدية أو تنفسية بسبب التلوث نتيجة المعارك هناك، وتكرير النفط بالطريقة اليدوية الذي يقوم به تنظيم الدولة الإسلامية”. ولأن قوانين المشفى تمنع وجود مرافقين مع الأطفال، لذلك يضطر الأهالي إلى استئجار الفنادق الرخيصة أو قضاء أوقاتهم في حدائق العاصمة.

وقدرت مصادر طبية في “مشفى البيروني لأمراض السرطان”، لـ”المدن” أن نسبة 37 في المئة من مرضاه هم من محافظة ديرالزور. مصدر في المشفى، قال إن هذه النسبة العالية تعتبر مؤشراً خطيراً على الكارثة الإنسانية التي تعيشها المنطقة هناك. وأضاف: “نسبةً للأوضاع الإنسانية الصعبة التي تعانيها المحافظة، وتوقف العجلة الصحية فيها بشكل شبه كامل عن تلبية الناس فإن أي مرض يمكن أن يتطور ويتفاقم بسرعة نتيجة لانعدام العلاج ونقص الغذاء، وبحسب التقارير الطبية فإن المشافي المدنية التي لازالت تعمل داخل سيطرة النظام في الدير هي مشفى الأسد بقوام طبيب عام وطبيب داخلية، لذلك هنالك هذا العدد الكبير الذي يقصد دمشق للعلاج”.

الوضع الطبي المأساوي دفع مجموعة من الأطباء من الدير المقيمين في دمشق إلى تقديم العلاج المجاني لمواطنيهم، من خلال “مركز الشعلان الطبي” الذي يضم في كادره الطبي 11 طبيباً من محافظتي ديرالزور والرقة.

“المكتب الإعلامي لدير الزور” يُقدر عدد الديريين في دمشق، حالياً بـ700 ألف شخص، في حين أن عدد سكان الدير كان مليوناً و700 ألف، بحسب آخر إحصاء سكاني في العام 2010.

نازحو الجفاف

تواجد أبناء الفرات في دمشق، سابق للثورة في العام 2011، وإن لم يكن كما هو الحال عليه اليوم. فاستقر الديريون تاريخياً في حارة عُرفت لاحقاً باسم “الموحسن” في ركن الدين في دمشق. والمتجول في حارة الموحسن، المسماة على اسم البلدة الشهيرة في الدير، يسمع اللهجة الديرية بوضوح، ويرى الزي الديري الشعبي.

أبو جاد، 44 عاماً، من أهالي الدير والقاطن في دمشق، يقول لـ”المدن”، إن أهالي الدير لهم علاقة وطيدة مع دمشق، رغم أن حلب عاصمة سوريا الاقتصادية هي الأقرب جغرافياً لهم. فالديريون، ولسبب ما، يفضلون القدوم إلى دمشق. وفي العام 2007 لوحده، نزح حوالي 100 ألف شخص من الدير إلى دمشق، بعد موجة الجفاف الخطيرة التي ضربت الجزيرة السورية.

حكومة عبدالله الدردري، متبعة هرطقة “السوق الإجتماعي” التي حضّ عليها بشار الأسد ونهجه في “التحديث والتطوير”، كانت قد قامت بتشجيع الفلاحين على بيع أراضيهم بأثمان بخسة، لتجار ومتمولي النظام، والنزوح إلى دمشق. واستقر نازحو الجفاف في ضواحي العاصمة، وعاشوا بؤساً وفقراً. هذا لم يمنع قلة منهم من افتتاح مطاعم شهيرة في أرقى شوارع العاصمة، كمطعم “فضل بعاج” في شارع العابد، و”مطبخ محمود الهايس” الذي يعد من أكبر مطابخ دمشق في شارع الملك العادل.

دمشق العنصرية

أعداد الديريين الهائلة في دمشق، قابلها النظام في كثير من الأحيان بتصرفات عنصرية، بحسب شهادات الأهالي التي قابلتهم “المدن”. فعلى أبواب “القصر العدلي” كثيراً ما يوجه عناصر النظام إهانات للمراجعين، فقط لأنهم من المنطقة الشرقية.

“المكتب الإعلامي في دمشق” اعتبر أن النظام كرّس خلال 50 عاماً التقسيم بين السوريين، والتعامل العنصري ضد سكان ديرالزور يصب في ذلك.  وقال المكتب لـ”المدن”، إن العنصرية المبطنة ضد أهالي المنطقة الشرقية كانت موجودة قبل الثورة السورية، فدوائر النظام سعت إلى تسويق صورة نمطية عن أهالي المنطقة الشرقية، كمجموعة من “الجهلة المتخلفين، الذين يعيشون في خيام”. ويضيف المكتب: “والآن يتم التعامل مع أبناء المنطقة الشرقية، على الحواجز في دمشق، بتدقيق أكثر مترافق مع إجراءات أمنية أكبر. وقد وصلت إلى المكتب العديد من الإفادات حيث يتم اتهام الأهالي بأنهم دواعش فقط لأنهم من ديرالزور أو من الرقة”.

كما تطال الإجراءات التعسفية أهالي المنطقة من دون الحاجة إلى تبرير؛ فأصدرت وزارة التربية في 28 تموز/يوليو، قراراً بفصل 23 معلماً ومعلمة، من ديرالزور والرقة، مقيمين في دمشق، لأسباب أمنية.

الناظر إلى وجوه أبناء ديرالزور في دمشق، والمنصت لأحاديثهم، يدرك جزءاً من معاناة هذه المدينة، التي تُركت لقمة سائغة يتناهشها النظام والتنظيم. كُثر منهم عرّفوا عن أنفسهم: “نحن من ديرالزور… أولاد المدينة المنسية”.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى