صفحات سوريةعلي جازو

في ذاكرة وأحوال بلدة كردية سورية


علي جازو

لبلدة «عامودا» قيمة رمزية مهمة لدى الكرد السوريين، فمنها تنطلق الأفكار ويُختبَر الموقف السياسي وتنعكس الآراء والميول الجديدة. لذلك، فهي تعد المعيار الذي يحكم المزاج الكردي في سوريا. في زمن المد الشيوعي لُقّبت بموسكو الصغرى«، فردّ عليهم معارضو الشيوعية بأنها «مكّة الأكراد». يسود هذه البلدة الصغيرة أقصى شمالي شرقي سوريا غابة من الأفكار والخطط والرؤى، فأهلها يتحدثون في كل شيء، ولا يصلون إلى نتيجة. إنهم في قلب الغضب الذي ينهكهم، وفي عمق الأسى الذي يلهب عواطفهم. ومهاجرو المدينة يتفرقون في داخل سوريا وخارجها بكثرة، ونسبة المتعلمين فيها وذوي الاختصاصات مرتفعة، ويختلط العائلي بالسياسي في ذهنية تفكيرهم، وتلك سمة محبطة، رغم أنهم يغلفون أحكامهم النقدية بروح من السخرية اللبقة، ودفء العبث اللطيف. ثمة من يرى البلدة مغلقة وبطيئة التغير على المستوى الاجتماعي، وآخرون يرونها أكثر تقدماً مما تبدو عليه في الظاهر. فما هو داخل البيوت لا ينعكس جلياً في شوارع البلدة التي تتبعها أكثر من 144 قرية، وتشكل بعمقها الثقافي والمدني والبشري ثاني عاصمة ثقافية للأكراد بعد السليمانية في كردستان العراق، وإليها تعود أصول معظم الكتاب والمثقفين والشعراء المشهورين، كسليم بركات والراحل «جكرخوين». أثناء الانتداب الفرنسي تعرضت لقصف بالطائرات سنة 1936، وهجرها حينذاك معظم سكانها، ولاذوا بتلة عامودا التي أصبحت داخل الحدود التركية الآن، ويطلق عليها الأتراك اسم تلة كمال أتاتورك. ويشكل هذا الاسم صدمة لأهل البلدة، فالتلة علامة على عراقة وجودهم وإرثهم الجغرافي. ويقطع البلدة وادٍ كان نهراً، وحدود عامودا هي حدود الحق المهدور والتاريخ المنسي والأرض المعذبة والخيال الجريء. ولشبابها طاقة تفوق حجمها الصغير، وهم مصممون على استعادة الإسم الأصلي للتلة. وعامودا هذه فقدت جيلاً كاملاً من أطفالها أثناء احتراق دار للسينما في خريف 1960، أيام الوحدة السورية المصرية. ويشعل سكان البلدة الشموع عشية المناسبة كل عام، وفيها تأسس أول ناد ثقافي، وأول حزب سياسي كردي سنة 1957، كما إنها المدينة السورية الوحيدة التي أسقطت تمثال حافظ الأسد مرتين، الأولى في آذار 2004 والثانية غداة اغتيال المعارض مشعل تمو في القامشلي منذ أسابيع.، وبعيد إسقاط التمثال، وتعرض أكراد القامشلي لأطلاق نار ومقتل مدنّيَيْن، اقتحم أكراد المهجر خمس سفارات سورية، وسمع من على شرفة سفارة سوريا في لندن اسم عامودا كأنما هو عهد وفاء وتضامن لذاكرة البلدة وحاضرها الشجاع. وعانى سكان عامودا جراء تمردها معاملات أمنية قاسية، وحصاراً اقتصادياً. في خمسينات وستينات القرن الماضي، كان فيها أربع دور للسينما، وشكل المسيحيون نحو نصف سكانها، ولم يزل كثيرون منهم يحملون ذكريات حنين قوية لماضي البلدة العريق. والكثير من مسيحيي قامشلو والحسكة وحلب والمهجر السوري عاشوا فيها، غير أن نسبتهم قلت كثيراً، ولم يخلفهم سوى بضع عائلات، وتحولت كنائسها إلى دور مهجورة، وسكن إثنتين منها رجال أمن النظام ومخبروه. ورغم صغر البلدة وكثرة نازحي أهلها، بسبب قلة الوظائف وضعف اهتمام الحكومة وارتفاع نسبة الفقر فيها، فهي تبدي ردود فعل ثورية وسخطاً كبيراً ضد الظلم والعسف. خرج أهلها ضد نظام الحكم في وقت سبق محافظات كبيرة كحمص وحماه وغيرها من مدن سوريا وبلداتها، ويصف مثقفوها وكتابها مدينة الحسكة، مركز المحافظة. بأنها مدينة اللا أحد، إذ إنها بلاهوية وبلا طموح، وطباع شباب البلدة غريب، فهم لا ينتمون إلى تيار فكري ولا سياسي واحد، لكنهم لا يطيقون البقاء بلا حراك. وحينما قام رجال بعثيون بمظاهرة تأييد «عفوية» للنظام، وشابَها تلاسن وتصادم كادا يصلان إلى مستوى عنف خطير، وحالت كتيبة حفظ نظام بينهم وأطلقت قنابل غازية، قابلهم في نهار الجمعة التالي سكانُ البلدة بمظاهرة ضخمة، وكانت تلك رسالة مفادها أن من يؤيد الظلم والقتل لا مكان له في عامودا. ومن الشعارات التي يرددها الشبان هنا: «البعثي راح راح، المخبر وينو وينو». وهؤلاء هم أنفسهم الذين لبوا نداء درعا المحاصرة في بدايات الانتفاضة. ويسود بين شبابها خليط من الأفكار، وخلافاتهم تأخذ بعداً ثقافياً واجتماعياً أكثر منه دينياً أو عرقياً، فلا أحد هنا يميل إلى التعصب، وحينما مر رفاة الشهيد مشعل تمو، قام شباب البلدة بحمله على الأكتاف من أول البلدة إلى آخرها، بعد أن وضعوا جثمانه محل نصب كبير للرئيس الراحل حافظ الاسد كان قد حطموه قبيل وصول الجنازة، ودافعهم إلى ذلك أن «مشعل» لن يمر في البلدة وتمثال العبودية يسد مدخلها، وخرجت معظم نسائها إلى الشوارع والشرفات وأسطح المنازل، ورشوا المشيعين بالأرز وأطلقوا الزغاريد، وكانت جنازة ضخمة بحق. زار الشهيد مشعل تمو البلدة منذ شهرين تقريباً، وسأله أحد الحضور أثناء ندوة مفتوحة عن نيته الترشح لرئاسة جمهورية سوريا الجديدة الحرة المدنية، فأجابه إنْ أيدتموني فسأترشح، وربما كان ذلك، من بين أسباب أخرى، السبب الخفي وراء مقتله. وفي البلدة الآن ثلاث تنسيقيات، ولجنة للسلم الأهلي، ولجنة للحفاظ على أمن التظاهر، كما أن معظم الأحزاب الكردية السورية تركز على طرح أفكارها حول مستقبل سوريا في هذه البلدة، فالاجتماعات هنا سهلة وعلنية، وثمة ساحة ترابية كانت جزءا من ملعب بلا سياج، يجتمع فيها الناشطون والمهتمون، وعقدت ندوات أسبوعية على مدى أربعة اشهر في تلك الساحة التي سميت بساحة «آزادي»، كما إن الساحة التي كانت محل تمثال حافظ الاسد بات اسمها ساحة الشهداء. ومنذ أسبوع افتتحت أول مدرسة لتعليم اللغة الكردية، ويرى الشباب أن المركز الثقافي التابع للنظام يعود إلى أهل البلدة، ومن حقهم عقد الاجتماعات فيه، وحينما قدم محافظ الحسكة الى البلدة خرج شبابها في تظاهرة صامتة، واعتصموا أمام المركز رافعين شعارات: لا حوار مع الدبابات، لا للحزب الواحد. ويخشى الكثيرون تعرض البلدة لعقاب قاس من شبيحة النظام، ورغم ذلك فأن روح الثورة في صعود مستمر، ويبدو أن البلدة وضعت الخوف خلفها، وأنها ماضية في طريق الحرية الصعبة حتى نيلها كاملة.

ثمة أغنية شعبية كردية قديمة تتناول حكاية حب، تبدأ بغزل غريب، إذ تصف عامودا بـ»العاصمة« وتنادي المرأة العشيقة كأنما المدينة كلها تتأوه في النداء، والنداء يبث اللوعة ويحضن المرأة في آن، ويبقى موضوع حب الحرية والقوة والجرأة من أسرار هذه البلدة التي إن قامت لم تقعد، وإن قعدت لم تنس ماضيها المرير وآمالها الكبيرة؛ آمال خيالها الشقي وعزلتها المديدة.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى