مراجعات كتب

في ذكرى رحيله: غاليانو يقترف الخطأ الأخير/ ثيسار غاليرو

 

 

كمنقبٍ دائمٍ عن الحقيقة، وذي فكر ثوري، لم يستسلم إدواردو غاليانو أبداً. لا يمل ولا يكل من تعقّب سير المضطَّهدين وقصصهم المروية، وهو ما واصله الكاتب الأوروغواياني إلى آخر أيامه. هذا الشهر، أصدرت دار نشر “سيغلو XXI” آخر كتبه: “قناص القصص”؛ عملٌ نُشر بمناسبة الذكرى الأولى لرحيل مؤلف “الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية”.

بدأ غاليانو (1940-2015) العمل على الكتاب في عام 2012، وكان قد انتهى من كتابته بعد عامين، لكن تأجّل صدوره بسبب مرض المؤلف، الذي رحل في 13 نيسان/أبريل من العام الماضي، بعد معاناة مع سرطان الرئة. “رغم أنه لم يعلن عن ذلك صراحة أبداً، كان ينوي أن يترك لقرّائه الأوفياء شهادة عن تلك الأشياء التي كانت مهمة بالنسبة إليه.

يظهر غاليانو في الكتاب على غير عادته بالنسبة لقرائه، بنبرة مودّعة عندما يتحدث عن نفسه، وهو أمر لم يعتده”، يقول كارلوس دياث، مدير دار “سيغلو XXI” في الأرجنتين، وصاحب فكرة نشْر الكتاب الأخير لغاليانو، موضحاً للجريدة الإسبانية “إِلْ مُونْدُو”.

بقي غاليانو في “قناص القصص” (صدر في 4 أبريل/نيسان في أميركا اللاتينية وأمس في إسبانيا)، وفياً لنفسه، مصوراً بأسلوب متفرد محطات وشخصيات غير معروفة كثيراً في التاريخ. هذا العمل هو مجموعة مقتضبة من القصص التاريخية محملة بالنقد الاجتماعي وسخرية محبوكة، تماماً كما فعل في ثلاثيته الشهيرة “ذاكرة النار”، حيث تتعايش الأسطورة ما قبل الكولومبية مع تسلُط الدكتاتورية المعاصرة.

ينقلنا “القناص” من القربان الإلهي لبركان توبوما، في مرتفعات جبال الأنديز، إلى أسطورة “لا بِيلِيغْرُوسا”: “في نوفمبر/تـشرين الثاني من سنة 1976، حيث دمرت الديكتاتورية الأرجنتينية منزل كلارا أناي مارياني واغتالت والديها، ولم يعد يُعرف عنها أي شيء، رغم أنها منذ ذلك الحين وهي ترد في لائحة مديرية المخابرات لشرطة محافظة بوينس آيرس، في القسم المخصص لـ”المجرمين مهددي الأمن العام”. حيث كُتب على البطاقة الخاصة بها: “متطرفة”. كان عمرها ثلاثة أشهر، عندما صُنَفت هكذا”.

غاليانو المعروف بسخريته النقدية حاضر أيضاً في العمل، كما هو الحال في “آثار”، المحطة التي يُفتتح بها الكتاب: “محت الرياح آثار طيور النورس. بددت الأمطار خطوات البشر. أخفت الشمس آثار الزمن. الحكواتيون يبحثون عن آثار الذاكرة المفقودة، والحب والألم الغائبين، ولكن لا يُمحيان”. كما أن شخصية غاليانو الصارمة حاضرة بقوة عندما يروي، في نص عنوانه “الصم”، عدم التفاهم الذي حصل بين المستعمر الإسباني والسكان الأصليين لأميركا. فحسب رواية فراي توريبيو دي بارتولومي – يحكي غاليانو- كيف أجاب أهالي شبه جزيرة يوكاتان الحالية على الإسبان بكلمة غامضة “تيكتيتان، تيكتيتان” عندما سألوهم بصوت عالٍ عن المكان الذي كانوا موجودين فيه. الغزاة “الصم” فهموا “يوكاتان، يوكاتان”. “لكن في لغتهم – يسخر غاليانو- كان الأهالي قد قالوا: “لا أفهمك، لا أفهمك”.

إلى جانب النصوص التي كان قد اختارها سلفاً لتضمينها في “قناص القصص”، بدأ غاليانو عملاً جديداً حيث كتب فيه العديد من القصص. “كانت تعجبه فكرة أن يسمي العمل بخربشة”، ويقول دياث إنه قرر تضمين بعض من هذه النصوص في كتابه.

تُظهر هذه “الخربشات” غاليانو أكثر حميمية، والرجل الذي أهدته بنت أحد أصدقائه شقة في الساحل الكاتالوني من أجل أن يتفرغ للكتابة، لأنها كانت تفضل الأغاني، وبالنسبة إليها فــ”الكتب ساكنة والأغاني تطير”، وتقدم لنا بعض الحكايات الممتعة.

كتابه “الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية”؛ كتابٌ مقدس بلا منازع بالنسبة لليسار في المنطقة، رغم ذلك، فقد رُفض رفضاً غير متوقع أبداً من قبل الثورة الكوبية. يَحكي غاليانو أنه في عام 1970 تقدم بالمخطوط إلى جائزة “كاسا دي لاسْ أميريكاسْ”، التي فشلت كتجربة في كوبا. وخسر الجائزة. وفقاً للجنة، فإن “الكتاب لم يكن جدياً. في السبعينيات، كانت الجدية بالنسبة لليسار مازالت مرادفةً للملل”. بعد سنة نشَر غاليانو الكتاب، وكان عمره 31 سنة. كان في بداياته كتاباً موجهاً للقرّاء الـ”السريين المُتخفين”. لم يصل كما يجب بالنسبة إلى انقلابيي بلدان القرن الجنوبي الأمريكولاتيني بمن فيهم الأرثوذوكسيون البيروقراطيون في هافانا.

“بدت بعض هذه النصوص كأثر لكل ما تخيّله أو فكّر فيه حول الموت”، يضيف دياث. “هي نصوص جميلة جداً ومؤثرة، حتى إننا قررنا إدراجها أيضاً”.

في “خربشاتـ”ــه، لم يفقد غاليانو روح الدُعابة بما في ذلك عندما كان يتحدّث عن نفسه. فهو بالكاد كرّس في سيرة ذاتية كاملة 15 سطراً لوصف طريقته: “مذ كنتُ يافعاً جداً، كانت لديّ سهولة كبيرة لاقتراف الأخطاء”. وفي “تفاصيل وجيزة جداً للكاتب” يشرح لنا في أربع كلمات لماذا لم يتوقف أبداً عن اعتبار نفسه صياداً للقصص: “الكتابة متعبة، لكنها تواسي”.

 

 

________

مطبخ العمل

يذكر دياث، الذي كان بصحبة غاليانو قبل وفاته، بعضاً من جوانب كتابة هذا العمل: “كانت نصوصه مرتبة في ذهن إدواردو، والرسوم التوضيحية، وكل شيء. هناك منطق موضوعاتي كان يحب أن يتبعه، ودائماً كان يعيد قراءة ومراجعة نصوصه. كان أسلوب الكاتب فريداً من نوعه ساعة انكبابه على أعماله، حتى إنه كان يقتسم مع ناشره المطبخ حيث كان العمل. لقد دعاني إلى بيته من أجل العمل على الكتاب”.

ترجمة عن الإسبانية محسن بن دعموش

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى