صفحات المستقبل

في رثاء إعلامنا… وأوهام الديموقراطية/ بيسان الشيخ

 

 

يلخص الطرد التعسفي الذي تعرض له الصحافي والكاتب محمد أبي سمرا من جريدة «النهار» اللبنانية من ضمن عشرات الموظفين، حال الإعلام وامبراطورياته المتهالكة في بلد متهالك أيضاً، وفارغ إلا من أكوام نفايات تتراشقها الطوائف والمناطق في ما بينها.

وصحيح أن عشرات الإداريين والصحافيين فقدوا وظائفهم في حملات التقشف المتقطعة التي أطلقتها أخيراً صحيفة «النهار» وغيرها من المؤسسات الإعلامية اللبنانية، يبقى أن اختيار أبي سمرا من بين الأسماء المكرّسة في المهنة، ينطوي على رمزية خاصة ويحمل طعناً مزدوجاً.

فهو من جهة يقول لأبناء جيله الذين ناهزوا الستين ونهضوا بالمهنة في سنوات الحرب والسلم على السواء، إن أي إنجاز أو رصيد مهني لا يستطيع حماية الصحافي من عسف المؤسسات وحساباتها المالية، ويقول للجيل الشاب من جهة أخرى إن ذلك مآل المناقبية ومصير من لا يتظلل بسياسي أو صاحب نفوذ.

وأسوأ من ذلك، أن هذا هو الغد الموعود لكل من لا يستثمر لونه الطائفي في الحفاظ على شيء من الأمان الوظيفي أو في استدراج عروض عمل جديدة.

ولعل المؤلم أكثر أن موجة الصرف الأخيرة التي نفذتها وسائل إعلام محلية من «النهار»، إلى «السفير» و»الأخبار» وتلفزيون «الجديد»، بالإضافة إلى تلكؤ «المستقبل» عن دفع رواتب الموظفين لأكثر من خمسة أشهر وسط صمت سياسي وإداري مطبق، جاءت بالتزامن مع استعدادات نقابة المحررين إقامة احتفال باذخ لتلقي التهاني باختيار نقيب جديد، لا يزال يتخبط هو أيضاً في طعن قانوني لانتخابه.

أما الجسم الإعلامي اللبناني في المقابل، فيلخصه توافق ذلك كله مع الذكرى السنوية لانتحار الصحافي نصري عكاوي، بعدما ضاقت به سبل العيش ولم تمنحه المهنة ولا مؤسساتها النقابية أي حصانة أو حماية لكرامته الإنسانية.

ولا شك أن أسباباً «موضوعية» دفعت بأصحاب المؤسسات إلى ذلك الطلاق مع فرق عملها، ومنها انحسار سوق الإعلانات والأزمة المالية المجرجرة، والتعويل على المواقع الإلكترونية في مواجهة الورق وتكاليف الطباعة والتوزيع… وغير ذلك من التفاصيل الحسابية المبررة في جداول المصارف.

لكن ثمة أسباباً أخرى، أعمق وأكثر التصاقاً بالواقع اللبناني العام، دفعت بالمهنة وأهلها إلى ذلك الحضيض، من جملة مهن وقطاعات بني عليها «الوهم» اللبناني. فذلك على ما يبدو، جزء من حالة اهتراء عام أصابت «الجمهورية» وضربت فيها المعنى المؤسس لكل سرديات «الخصوصية اللبنانية» منذ الاستقلال وحتى اليوم.

ولا يخفى أن هناك تراجعاً فعلياً لدور لبنان في المنطقة، وإحجاماً خارجياً عن الاستثمار فيه والإعجاب بـ «فرادة» هذا النموذج وتنوعه وسط محيط أرادته أنظمته القمعية متجانساً بالقوة. فهوامش الممارسة الديموقراطية من انتخابات وتشكيل تنظيمات نقابية وحزبية وحرية التعبير وتنوع الإعلام تقلصت في العقدين الأخيرين حتى كادت تختفي. كما أن بيروت ما عادت منذ زمن ملجأ الكتاب والمثقفين العرب ومطحنة أفكارهم وخصوماتهم، ولا عادت مقاهيها وأزقتها ملاذاً آمناً للمعارضين السياسيين منهم، ولا جامعاتها قبلة الطلاب والباحثين ولا مشافيها مقصد المرضى. حتى المؤتمرات الدولية ومراكز الأبحاث وجدت لنفسها عواصم أخرى، أقل ادعاء وأكثر أمناً. وعليه، بات لبيروت أكثر من بديل في المتناول، خصوصاً مع تغير مراكز النفوذ في مرحلة السلم والتعايش وثمن الأمان الذي دفعته المدينة وكفاءاتها. فكان سبق لقطاع الإعلام أن تعرض لنكسة كبيرة إبان الحرب أدت إلى هجرة جماعية للكفاءات نحو الكويت وقبرص تحديداً وبعض العواصم الأوروبية.

أما لاحقاً، فلم يشذ القطاع عن سياقات ما بعد الطائف وقيمه. فعدا عن المدن الإعلامية التي شيدت في بلدان الجوار، وأطاحت إرثاً محلياً وكثيراً من النوستالجيا، راحت الصحف اللبنانية تصدر بشق الأنفس، وقد تحولت عنها رؤوس الأموال، فيما اتجهت غالبية قنوات الإعلام المرئي إلى صناعة الترفيه بدلاً من السياسة وطرح قضايا الشأن العام. وذلك ليس تماشياً مع رغبة بطي صفحة النزاعات فحسب، وإنما أيضاً تلبية لشروط الممولين ومصالحهم.

وأخيراً، جاء طموح الأبناء والأولوية الممنوحة لهم بوراثة مؤسساتهم الآباء سياسياً ومهنياً، ليسد الأفق كلياً أمام أي طموح إلى الترقي الوظيفي لصحافيين وكتاب سواء كانوا ناشئين أو مكرسين.

هكذا، لم تقتصر ثقافة التوريث على المناصب السياسية والعائلات التقليدية، بل امتدت إلى مجال يفترض أن علة وجوده تكمن في كشف التجاوزات وخدمة «المصلحة العامة»، فيما المال السياسي يلطخ كثيراً من الأيادي، ويعيق الأداء المهني والنزيه.

وإلى هذا وذاك، فقد لبنان جاذبيته واحتكاره لقضايا المنطقة. فما عاد ساحة صراع للأنظمة المحيطة ولا مسرحاً لتجاذبات السلطة والنفوذ الإقليمي بما ينعكس مزيداً من التمويل لوسائل إعلامه كما جرت العادة. فمنذ انطلاق الثورات الشعبية في العالم العربي، كثرت القضايا وتشعبت الحروب وتعددت مصادر التمويل ومنصات التغطية الإعلامية، حتى بات الاستغناء عن مؤسسات برمتها، لا مجرد أفراد فيها، تفصيل عابر آخر في سياق تدهور عام.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى