صفحات سوريةعدي الزعبي

في رموز الثورة السورية


عدي الزعبي

في سوريا يتخذ الصراع القائم بين الديكتاتور والشعب أشكالاً متعددة. أحدها هوالصراع على الرموز. رموز النظام تتمحور حول عبادة القائد. رموز الشعب متنوعة، من المفاهيم المجردة كالحرية والديمقراطية ووحدة الشعب السوري، والمدن المنكوبة كمهد الثورة درعا، وعاصمة الثورة حمص، ودوما وإدلب، إلى القادة الميدانيين كحسين هرموش وعبد الرزاق طلاس. ولكن الأهم والأكثر تأثيراً هم الشهداء الذين تمت تصفيتهم بوحشية. هنا يصبح الصراع أخلاقياً. وهنا يتجلّى التفوق الأخلاقي للثورة، والسقوط الأخلاقي الكامل للنظام.

هؤلاء الشهداء هم ناشطون مدنيون عزّل أو ضحايا مدنيون عزّل. الناشط غياث مطر والمغني ابراهيم قاشوش والمصور رامي السيد ومئات الناشطين الذين قام النظام بتصفيتهم بهمجية لا إنسانية. الأطفال ثامر الشرعي وهاجر الخطيب وحمزة بكور وأطفال درعا وعشرات الأطفال الذين قضوا إما تحت التعذيب، أوبالقصف العشوائي، أوبالمجازر المروعة التي رويت عن كرم الزيتون وبابا عمروومناطق أخرى. أن يكون هؤلاء هم رموز الشعب يعني أنّ السوريين استبدلوا الرمز الواحد الأوحد، الديكتاتور، بمئات المدنيين والناشطين الذين يرمزون لإنسانيتهم، إنسانية السوريين. أكثر من ذلك، لم يكن للسياسيين أوللأحزاب السياسية دور رمزي في الثورة السورية. لا يوجد تقديس لأشخاص سياسيين أومحاولة لجعلهم رموز للثورة. هذا ليس انعكاس لضعف الدور السياسي، بل هوانعكاس للسبب الرئيسي الذي قامت الثورة من أجله، إعادة الكرامة للسوريين العاديين، لأولئك الذين حُرموا من أبسط حقوقهم على مدى عقود من الديكتاتورية.

هذا الصراع على الرموز دفع النظام إلى محاولة تشويه سمعة الشهداء. وصم الشهداء بالإرهابيين والمتطرّفين والعرعوريين من جهة، واتهام جهات غير معروفة بتعذيبهم، من جهة أخرى. مأساة حمزة علي الخطيب، تبعتها فصول أخرى لا تقل مأساوية. طرح النظام قصصاً متناقضة لما حدث لحمزة. فهولم يكن في الثالثة عشرة من عمره، بل في السابعة عشرة. هوليس طفلاً بريئاً، بل كان يريد اغتصاب نساء الضباط في مساكن صيدا. وجد النظام جثته وعليها آثار التعذيب، ثم قام بتسليمها لعائلته. في رواية أخرى، لم يكن هناك آثار تعذيب، بل تحللت الجثة نتيجة طول الفترة الزمنية بين استشهاده ودفنه. اجتمع والد حمزة مع رئيس الجمهورية، ووعده بمتابعة الموضوع، وإلقاء القبض على من قام بهذه الفعلة الشنيعة.

تتكرر القصة في سوريا يومياً. يُقتل الشهداء مرتين. النظام يقتل ويعذّب ويشوّه سمعة من قام بقتلهم. ليست مأساة حمزة استثناء. إنها القاعدة التي يتبعها النظام. عملية تشويه السمعة تتبع عمليات التشويه الجسدي. لا يقبل النظام بوجود رموز للشعب. الديكتاتور يجب أن يكون الرمز الأوحد. مع منع وسائل الإعلام من دخول البلد، ينشغل النظام السوري بمحاولة تشويه سمعة الجميع، ويبقى الديكتاتور بحكمته وألوهيته الرمز الوحيد في سوريا.

التناقض بين الديكتاتور والثورة يتجلّى بالرموز التي يتبنّاها الطرفان وبمعانيها .أولاً، وحدانية الديكتاتور وتفرّده المزعوم، يقابلها غنى وتنوّع رموز الشعب. ثانياً، خلورمز النظام من المعنى الأخلاقي، مقابل وضوح المعنى الأخلاقي لرموز الثورة.

ليس في قاموس النظام رمز غير الديكتاتور. الديكتاتور هوالحاكم بأمر الله، ظل الله على الأرض. ‘حافظ أسد رمز الأمة العربية’، كما كنا نردد في المدارس. أما الثوّار فلهم مئات الرموز.الشهيد الكردي مشعل التمو، ناشط داريا السلمي الشهيد غياث مطر، حارس الكرامة الساروت، مغني حماة ابراهيم القاشوش، الطبيب ابراهيم عثمان، الشيخ أحمد الصياصنة، أنس الشغري محرك مظاهرات بانياس، والعشرات غيرهم. يعكس هذا التنوع في الرموز، تنوّعاً في بؤر الثورة وطبقاتها ومناصريها. كما يعكس همجية النظام الذي استثار كافة أبناء الشعب ضده. الأهم أن هذا التنوع يعكس نهاية مفهوم تقديس فرد بعينه كممثل ورمز للشعب السوري. غنى وتنوع الشعب السوري يحضر بقوة في رموز الثورة. بؤس وانحطاط أتباع النظام ينعكس في عبادة الرمز الأوحد. بهذا المعنى، يكون الصراع على الرموز ايضاً صراع على أية سوريا نريد، ما هي الرموز التي تمثّل الثورة ولماذا.

المعنى الأخلاقي للرموز التي تبناها الطرفان تقف على طرفي نقيض. لا يوجد أي معنى أخلاقي في مفهوم عبادة الفرد. تحويل الديكتاتور إلى رمز وحيد يعكس غياب أي مفهوم اخلاقي لأتباعه. يتحوّل الأتباع إلى عبيد يدورون في فلك الديكتاتور. في مقابل بؤس هذا الرمز وخلوّه من أية قيمة أخلاقية، نجد رموز الثورة هم أبناؤها الذين قضوا على يد الديكتاتور. الرمز هنا يشير إلى الدافع الأخلاقي الذي يحرّك الثوار. شهداؤنا هم محرّكوالثورة ورموزها.

المعنى الأخلاقي يكمن في ثورة الشعب لإستعادة الكرامة المهدورة. يقف غياث مطر كرمز في اعلى السلم الأخلاقي. الناشط الشاب بابتسامته الهادئة، يوزّع الماء والورود على أفراد الجيش. يلخّص غياث مطر واستشهاده تحت التعذيب، مع اقتلاع حنجرته، الصراع على الرموز. المرح الصادق في صوت ابراهيم القاشوش الأجش، يعكس رغبة السوريين بحياة مختلفة عن أناشيد وهتافات العبيد. ابتسامة حمزة الخطيب في الصورة المتداولة له، هي الابتسامة التي نريدها لأطفالنا.

الصراع على سوريا يدور بين من يرون في الديكتاتور رمزاً لسوريا، وبين من يرون في الشهداء رمزاً لها. ابتسامة حمزة تغمرنا. يغمرنا بعدها نصف وجه. لا يبتسم ولا يبكي. لا دموع ولا آهات. دماء والعينان مفتوحتان على العدم. استشهد حمزة بكور في الصباح التالي. ليلة كاملة بنصف وجه. رمز لسوريا الأسد، ولثوار سوريا.

‘ كاتب من سورية

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى