صفحات سورية

في زحمة المعارضات السورية


هايل نصر

نظام أربعيني بزعيم واحد, امتد بيولوجيا من والد إلى ولد. بحزب واحد على جانبيه طحالب “جبهوية”. الوراثة فيه قاعدة لكل الزعامات, لكل القيادات, بما فيها قيادات حماة الديار. وراثة في الأمن, في الاقتصاد, في الثقافة, والسياسة, في الإعلام , وحتى في الفن والتمثيل. باستثناء الرئاسة والمواقع الحساسة, لا يشترط أن يكون الوريث من النسل (من الصلب) فلا بأس أن يكون من أبناء العمومة والخؤولة, ومن الأصهار, وان لم يكن كل هذا كاف لسد الاحتياجات الأساسية للدولة, لتوسعها وضرورات الانتفاع و”التنفيع” فيها, يتم اللجوء للتبني من بين أبناء المقربين ايدولوجيا وعشائريا وطائفيا, ليصبحوا أبناء للنظام بالتبني, اشد ولاء من الأبناء المنحدرين من الصلب, ومن بين هؤلاء, بشكل خاص, يتم, براحة وثقة, تكوين جيش انكشاري, أو جيش شبيحة رديف لحماة الديار ولرجال الأمن بألوانهم.

هكذا بقي النظام القمعي جسد واحد برأس واحد, غير قابل, رغم سفكه دماء الآلاف, للانشقاقات أو الاحتجاجات أو الاعتراضات, أو مجرد الانتقادات أو التساؤلات. بقي واحد واحد. لا غرابة فانه نظام كان يبني خلال أربعين عاما أجهزة قمعية لاستمراره دون منغصات, ولم يفكر يوما ببناء دولة لأبنائها. انه الفن السوري في القيادة والسياسة والاستمرار, فن الاحتفاظ بالسلطة للأبد, كما يعلن على رؤوس الأشهاد.

نجح هذا النظام خلال مسيرته القمعية الطويلة, في بناء دولة استبداد, وكرسها أداة للاستبداد, لا سابق لها في الأنظمة الجمهورية على مر القرون التي عرفت نظام الجهوريات. أربعون عاما بناء في هذا الاتجاه, واستثمار في مشاريع إفساد الإنسان والمجتمع والأوطان. انطلاقا من هذه الانجازات صرح ويصرح أعمدة النظام, وحتى المتكئين عليه, بكل ثقة, بان سوريا لا يمكن أن تطالها رياح التغيير, لأنها ليست تونس, وليست مصر ,وليست اليمن, ولا ليبيا.

نعم إن نظامها في الواقع شيء آخر مختلف, لا شبيه له. وبناؤه لا مثيل له. لا يدخل في أي تصنيف من تصنيفات العلوم السياسية والقوانين الدستورية. إنه في عالمنا هذا استثناء.

ذهبت الغطرسة بهؤلاء, بعد أن اقتنعوا بان سوريا هي سوريا الأسد وللأسد, للتمادي باحتقار الشعب السوري, إلى الثقة التامة بأنهم قتلوا فيه الكرامة وعزة النفس وانسوه شيئا اسمه حرية أو ديمقراطية, وجعلوا منه شعبا يهب عن بكرة أبيه, بالترهيب والترغيب, ليفدي, بمناسبة ودون مناسبة, زعيمه وعظيمه بالروح وبالدم, والى الأبد إلى الأبد.

السوري ليس حديثا على هذه الأرض ولا طارئا عليها, مُست كرامته في فترات من تاريخه, ولكنه لم يفقدها, سُلبت حريته, ولكنه كان يستعيدها. انشأ وكون أقدم حضارة عرفتها البشرية, ولم يكن طيلة ذلك بحاجة لزعماء بعظمة ووزن زعمائه الحاليين. بنى مُدنا هي الأقدم في المعمورة المستمرة إلى اليوم, هل يجهل احد تاريخ دمشق؟. لم يفهم النظام هذا الإنسان في العمق . تعامل معه بفوقية معتقدا أنه يستطيع, عن طريق الطغيان والإذلال, تغيير طبيعته. ولم تفهمه كذلك المعارضة كفرد, ولم تفهم مجتمعه, فبقيت بعيدة عنه لا تستطيع التعبير بصدق عن أفكاره وأحلامه ومستلزماته, وانعكاسا لتطلعاته, حتى ولو حسنت نوياها, فالنوايا شيء والفهم شيء آخر. وبقي هو, نتيجة لذلك, بعيدا عنها لا يثق بتمثيلها له.

سوريا الاستقلال لم تكن سوريا الأسد. كانت سوريا سوريتها. لم يكن معروف يومها الأسد. أُلصقت صوره وشُيدت تماثيله لاحقا في كل أركانها وفي غفلة من الزمن, وغابت صور زعمائها الحقيقين. لم تجد لها مكانا إلا الزوايا الخلفية المنسية. الصور والتماثيل لا تصنع التاريخ, تزيفه, ولكنها لا تصنعه, فتبقى مهزلة ومادة لتندره. تطير الصور وتتحطم التماثيل مع أول هبة ريح تغيير. كم من طغاة حلموا بالديمومة فذهبوا هباء وبقيت الأوطان. دروس التاريخ لا يعيها من لا يؤمن بمسيرة التاريخ.

السوري اليوم ليس معارضا. هو ثائر وطالب تغيير, يقدم مثلا للعالم الصامت ــ إلا بعض أحراره من غير العرب ــ في التضحية من اجل الحرية واسترداد الكرامة. تضحيات وشجاعة. لو قدر لفيكتور هيجو وغيره من عظماء الأدباء والكتاب والمؤرخين الغربيين ــ ممن كتبوا عن الثورات والتضحيات والشجاعة في بلدانهم ــ أن يبعثوا أحياء من جديد, لكانت دهشتهم مزدوجة: مرة من ضالة تضحيات شعوبهم من اجل الحرية, أمام تضحيات الثوار السوريين, ومن طبيعة مقاومتهم غير المسبوقة للاستبداد. صدورهم عارية تتلقى الرصاص الحي والقصف المدفعي, ومع ذلك يمضون قدما. استشهاد رفاق لهم تحت التعذيب ــ من قبل وحوش بشرية لا تشعر بان من تنهشهم وتمثل بهم هم مواطنون شرفاء من أبناء جلدتهم ــ ومع ذلك لا تخذلهم الهمم. ومرة من عدم وجود, في القرن الواحد والعشرين, كتاب وأدباء ومؤرخين أحرار من أحفاد وأحفاد أحفاد لهم, يسجلون بكتاباتهم وشهاداتهم, للتاريخ و للإنسانية , ملاحم بطولات وتضحيات هؤلاء الثوار المسالمين.

ثوار سوريا ليسوا معارضين للنظام بمفهوم المعارضة الواسع أو الضيق, فهم لا يعارضون موقفا, كما توحي به كلمة معارضة, أو خطأ, أو تصرفا منحرفا, أو ظالما, بنية تصحيح الخطأ, أو استنكار التصرف, أو تقويم الانحراف. يمكن أن يكون هذا حين يكون النظام شرعيا, ديمقراطيا, ارتكب بصدد ممارسته للسلطة بعض الأخطاء وبعض التصرفات السيئة, فجاءت المعارضة تحتج وتعارض وتصحح.. أما أن يكون النظام مستعد للتضحية بشعب كامل من اجل البقاء في السلطة والتفرد بها, ويرتكب المجازر بدم بارد وتشفى, وكأنه يدافع عن ملك له مغتصب من قبل شعبه, فهنا لا تصح كلمة معارضة, وإنما كلمة إسقاط كامل لكل النظام وأعوانه, وكل الأساليب التي لا تنجب إلا طغاة. هذه قناعات لا رجعة عنها عند ثوار سوريا في داخل سوريا. وان لم ترق لبعض المعارضات المنتعشة أخيرا, بعد طول تخدير, على رائحة دماء الشهداء.

في مقابل وحدة النظام وتماسكه, إلى الآن على الأقل, هناك تعدد المعارضات السورية وتفتتها. هذه المعارضات تكونت في أحزاب تقليدية, وانشقاقات عن هذه الأحزاب, وانشقاقات عن الانشقاقات, و تحزبات, وبقايا من شخصيات, ربما كانت تصلح لعصرها. كل هؤلاء لا يريدون الاعتراف بأنهم كانوا خارج كل معارضة فعلية, وأنهم كانوا, لطبيعة معارضتهم, سببا من أسباب استمرارية النظام وقُوّته.

معارضات أمضت عقودا دون أن تُكّون جسما قويا, وتصبح يوما تهديدا فعليا يحسب له النظام حسابا. كانت تتبع أساليب تقربها أحيانا من النظام, و تزداد, أحيانا أخرى, منه اقترابا حتى يختلط الأمر على المواطن فلا يعرف في أي شيء هي معارضة, وفي أي شيء هي موالاة. كانت في غالبيتها تبحث عن حصص في السلطة ومواقع ومكاسب, ولم تكن معارضات ببرامج فوق حزبية, و غير شخصية, غير نفعية, ودون تطلعات ضيقة. كان, وما زال, ينقصها حس sense المعارضة.

كما كانت, في جزء كبير منها, إلى ما قبل ثورة الشباب, اشد احترابا ومنافسة فيما بينها من معارضتها للنظام. غازله بعضها مرارا, وبرروا الغزل بمواقف النظام الوطنية والممانعة, والهجمة الاستعمارية والصهيونية. أوقف بعضها نشاطه المعارض مكافأة للنظام و”تشجيعا” له على التوجه الوطني كما يدعون. ولكن النظام هو من كان يصد الغزل ويجافي المغازلين, ولا يرد التحية بأحسن منها أو بمثلها. لم يكن ذلك في وارده. لم يقبل, من منطلق قوته وسيطرته وغطرسته, منهم ما هو أقل من الخضوع الكامل دون قيد أو شرط, والاندماج بالطحالب الجبهوية الزاحفة خلف قائد الدولة والمجتمع. لم يكن في طبيعة هذا النظام, مثله مثل المعارضة, حس الدولة.

انتفضت اليوم فجأة تلك المعارضات, كل على طريقته, لتمسك بورقة دماء الشهداء وتضحيات الشباب, لفرض قيد أو شرط على النظام, يمكن أن يمكنها من المشاركة في السلطة, وبالتالي إنقاذ سوريا من احتمالات الفوضى والتدخلات الخارجية!!!, يا للوطنية التي لا يعلو سقفها على المصالح الحزبية والشخصية !!!. لم يقبل النظام, الذي لا يؤمن إلا بالحل الأمني القمعي, الإمساك بطرف هذا الخيط. أو ما يمكن أن يكون طوق نجاة. ترفض عقليته الشمولية فكرة المشاركة مها كانت, ومهما تدنت, ومن أي جهة جاءت, فنسبة 51% غير مقبولة عنده. نسبته المعتادة التي لا يرضى بغيرها لا يجب أن تقل عن 99%, فليس الابن بأقل من أبيه.

هذه المعارضات كانت وما زالت, في شكلها الحالي, جزءا من النظام السياسي السائد, ولدت معه في نفس الظروف, وتطبعت بطباعه, واستخدمت أساليبه, وتثقفت بثقافته في الضبابية والمراوغة والانتهازية, والمتاجرة بالشعارات الوطنية والقومية, والتقلبات اليمينية واليسارية. لم تكن يوما محل احترام الشعب السوري الذي لم يرتح حتى لفكرة أن تكون بديلا للسلطة الغاشمة الحاكمة التي يعاني منها ومن اضطهادها وفسادها. لم ير فوارقا تُرى بالعين المجردة. ومن هنا كان يأتي السؤال: إذا سقط الرئيس, الذي هو كامل النظام, فمن سيكون البديل.

غياب حس المعارضة, وحس الدولة, عند هذه المعارضات, لم يسم بمفاهيمها لترتفع فوق الاعتبارات الحزبية والشخصية وتترفع عنها. لم يكن مثل هذا الحس في تكوينها, كأحزاب, وكشخصيات سياسية. ومن أين يأتيها إذا كان لم تقم في منطقتنا العربية, طيلة تاريخها, الدولة بمفهومها الحديث. كيف إذن سينشأ عند النظام أو المعارضات, على السواء, حس الدولة وحس المعارضة. وبالتالي لا غرابة من تناحر المعارضات, والتنكر لمسؤولياتها, وإسفافها مع إسفاف مفاهيمها وأساليبها ومطالبها.

لا تعني المبررات التي يقدمها البعض لستر عورات المعارضات في هذه الأيام, أيام الجمر, شيئا كثيرا, من قبيل القول بأنها : كانت مشتتة في الداخل والخارج. عانت من السجون. عانت من القمع والملاحقات. دفعت دماء وجراحا ومن لقمة عيشها وعيش الأبناء والأهل. لا ينكر احد أن كل هذا تضحيات مؤلمة وعظيمة ولا يستطيع احد إلا يحترم ويقدر ضحاياها من المعارضين. ولكن هل كانت المواقف, والأفكار, والمفاهيم, والسياسات المعارضة, تتناسب مع فداحة تلك التضحيات؟.

عورات تلك المعارضات تتكشف الآن في اللحظة التاريخية التي تكاد تفلت منها, إن لم ترتفع إلى مستوى المسؤولية طارحة الحساسيات, والخلافات, وتصفية الحسابات الضيقة الشخصية والحزبية. الأقدمية في المعارضة لا تُعطى للقدماء امتيازات نضالية, في مواجهة من يسمونهم بالمعارضين الجدد دون تاريخ, للغمز من أهمية مشاركتهم ومواقفهم. ليست المعارضة تنظيما عسكريا ورتب وأقدمية. هل يعرف أحد أحدا من الثوار الشباب غير المعروفين إلا للشوارع وفي الشوارع؟. أليسوا هم وحدهم جنود الحرية المجهولين؟. لا أحد يعرف من أسمائهم إلا أسماء من سقط منهم شهداء. لا يجرّون خلفهم أقدمية, ولا يحملون شهادات وألقاب نضالية, ولا يتباهون بشهادات وألقاب علمية. يحملون دمهم على أكفهم ويهتفون للحرية والديمقراطية والكرامة ورفض المذلة. ذهبوا وحدهم بالمجد كله. أما معارضات الطواويس فلا تصلح أمرا, ولا تغير شأنا, ولا تسقط نظاما.

لا نستغرب, إن بقيت هذه المعارضات على ما هي عليه دون الارتفاع لمستوى اللحظة والمسؤولية, أن نسمع غدا هتافات الثوار من الشباب الأبطال: الشعب يريد إسقاط المعارضات, بنفس قوة الهتافات: الشعب يريد إسقاط النظام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى