صفحات الناس

في زمن صورة الديكتاتور/ ريبر يوسف

 

 

كان ثمّة مراحل عديدة في معادلة الحياة عبر صورة الديكتاتور في الجزيرة السورية؛ تلك البقعة التي فرضت ريفيتها عليها أن تكون على أهبة الإيمان التام بمفهوم الصدق، إذ لم يتعاط ناسها مع الحركة الميكانيكية التي كانت تنتجها (سورية الداخلية) إن صح التعبير، أقصد المدن الداخلية والساحلية منها.

لم تك ثمة معامل تدفعنا، نحن سكان تلك البقعة المريبة، إلى خوض معارك تدفعها الدول عادة في سبيل الإتيان بمفضى الولاء التام للدولة وحسب، كنّا فقراء حتّى في فهم مفردة الخديعة.

أعيد الأسباب برمتها إلى طبيعة الحياة، تفاصيلها واستخلاصاتها في عملية مواكبتنا ودحر كافة القيم المناهضة لمرادفة الصدق وحسب، الأرض، القطيع، الولاء للجد، الإيمان التام برسائل الشمس لنا أثناء الغروب، كلّها كانت بمثابة عوائق تجعلنا أكثر واقعية أسوةً بإخوتنا الذين كانوا يقطنون (سورية الداخلية).

إذاً، كانت ثمة مراحل عديد في معادلة الحياة عبر صورة الديكتاتور، امتازت الحقبة تلك بسبل عديدة يمكن وصفها من خلال مشاهد عديدة، مفضية في سبيل النتيجة ذاتها، المشاهد التي حددت طبقات الناس وسلطاتهم في سورية الأسد آنذاك.

المشهد الأول: عامل في سوق الهال، يعلّق في دكانه صورةً لحافظ الأسد.

المشهد الثاني: عامل في سوق الهال يعلّق في دكانه صورةً لحافظ الأسد مع ابنه باسل.

المشهد الثالث: عامل في سوق الهال يعلّق في دكانه صورة جماعية لأسرة حافظ الأسد.

إذاً، ثلاث صور، في زمنٍ واحدٍ، خلل مكان واحد في مدينةٍ واحدة هي مدينة الحسكة السورية، ثلاثة عمال، ثلاثة دكاكين، ثلاث صور.

بالتأكيد كان من الممكن دراسة شخصية العامل الذي علّق على جدار دكانه صورة جماعية لأسرة حافظ الأسد، على نحو مغاير، إذ إنّه أقدم على عملية الاستحواذ على ريبة المتسوّق كاملة في سبيل جعله كائناً آلياً يقدم على الفور في الابتياع من دكانه، كما لو أنّ القضية ذات صلة بعملية الاستسلام للموت عبر إبداء ولاء مزيّف للدولة التي تبقي على هكذا أصناف وتتركهم بسلام. إذاً، البائع الأخير استطاع استئصال الريبة الخالدة لدى المرء السوري إلى الحد الذي جعل من الريبة تلك مصدراً لكسب المال.

في الجانب الآخر من المدينة، الجانب أو الجهة التي كانت موثوقة بسلسلة لامتناهية من الملفات والأوراق والقضايا والمشاريع، يمكن وصفها تماماً بجهة الدولة، كان تجار صورة حافظ الأسد يتجولون كما لو أنهم كائنات خرافية في أروقة الدوائر الرسمية في مدينة الحسكة السورية، هؤلاء هم التجار الحقيقيون الذين أنتجوا معادلة التجارة عبر الصورة، صور أسرة حافظ الأسد بمثابة ختمٍ سرّي كانت تُطبَع على كافة المعاملات.

في فترة ما، توافد إلى مدينة الحسكة رجال كانوا يدعون بأنهم على صلة مباشرة بالحلقة الضيقة لبيت الرئيس، كان أغلبهم من سكان القرى المجاورة لقرية القرداحة، مسقط رأس حافظ الأسد، ومن ثمّ تداخلوا مع المجتمع بطرق لامتناهية، إذ كانوا يتظاهرون بأنهم مدنيون لا علاقة تربطهم مع أجهزة المخابرات، ليحصلوا إثر ذلك على شيفرة الطمأنينة التي جعلتهم على الخط المباشر مع الناس إثر تبنيهم ذاك الخطاب البسيط الذي كان متداولاً شعبياً آنذاك، خطاب انتقاد “الدولة الصغيرة” إن صح التعبير، أي، دولة الموظفين والمؤسسات، دون التطرق إلى الدولة الكبيرة المتمثلة ببيت “الرئيس”.

إذاً، استطاع هؤلاء الرجال ولوج البوابات النفسية للناس هناك. كان ثمة ريبة تنال من قلوب الناس أن يذكر أحدهم مفردة المخابرات، لذلك، وجد الكثير من أبناء المدينة النامية تلك ما يشبه الانتصار الضمني على مفهوم المخابرات وذلك عبر رجال كانوا يدعون المدنية وفي إمكانهم دخول مراكز المخابرات عبر دفع الأبواب بأرجلهم لا أيديهم.

كانت ثمة شيفرة سرية يملكها الرجال هؤلاء، كان أغلبهم يحملون في جيوبهم صورا شخصية لهم تجمعهم مع حافظ الأسد أو أحد أبنائه، كانوا يشهرون الصورة تلك في وجه الناس فينالون الثقة في أنهم بإمكانهم تسيير معاملاتهم البسيطة وذلك عبر دفع أموال مقابل ذلك.

الصور تلك عينها، كانوا يشهرونها أيضاً في وجه مدراء الدوائر الحكومية وأجهزة المخابرات، كانت تلك الشيفرة بمثابة حلقة وصل بين المواطن المكتظ بمجموعة أمنيات وطلبات وبين الدولة.

بطريقة ما، استطاع هؤلاء الرجال الغرباء الخوض في أعمال يمكن تسميتها بالسمسرة.

تحوّل مفهوم الصورة بطريقة ما إلى مدرسة شعبية تداولت بين الناس هناك، أي، التقاط صورهم مع رجل مهم، أو تعليق صورة لرجل مهم داخل البيوت، كان الأمر أيضاً بمثابة الشيفرات السرية التي وجد فيها الناس ضالتهم في سبيل كسب ثقة الآخر والاستفادة منه مادياً ومعنوياً واجتماعياً، بطريقة ما، كانت الصورة تلك تعبّر عن انتماء الشخص القومي أو الديني بل حتى العشائري، إلا أن الصور الشعبوية تلك كانت سرية وحسب، معلقة داخل البيوت، كانت خارج سياق مفهوم الصورة العامة للدولة الكبيرة داخل سورية.

كانت ثمة دول لامتناهية داخل سورية، أخذت أشكالها ومفاهيمها وأدواتها من الصور المركزية التي كانت تُلتَقَط في القرداحة والتي كانت تتداول مثل الطوابع على رسائل سرية في دولة سرية.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى