سوسن جميل حسنصفحات الثقافة

في زوبعة “ليتها لم تكن”/ سوسن جميل حسن

 

 

باسترجاعٍ سريع للسنوات الست الماضية، أو للدقة أكثر، بالعودة إلى بدايات عسكرة الثورة السورية، والمرور في سياق تطوّر الأحداث ميدانياً ودراماتيكياً، يهولك عدد الفصائل المسلحة المشاركة في الحرب التي أزاحت الثورة، وحرفت الحراك عن غايته، لتصبح أحلام الشعب والأهداف التي ثار من أجلها في آخر أولويات هذه الفصائل كما يمكن القول أولويات الهيئات السياسية التي طرحت نفسها ممثلاً للشعب السوري.

وليس طغيان الطابع الإسلامي أو المذهبي في بعضها، أو الماضوي، على أسماء تلك الفصائل سوى انعكاس على سيطرة الإسلام السياسي على العملية السياسية والحراك الميداني.

لكن الواقع السوري المتأزم والمدمر الذي تتزايد الأطراف الفاعلة، والداعمة، إصراراً على تدميره، يشير إلى أن هناك جزءاً من هذه الفصائل تقاتل النظام فقط، بينما يقاتل بعضها البعض الآخر في سلسلة عنفٍ لا تنتهي، تزيد من إضرام النيران كلما خمدت، وتدعم آلة التدمير للبنيان السوري في كل مجالاته، كلما وهنت حركتها، ودائماً هناك من يدعم، يموّل ويسلح.

كأنما المطلوب من هذه الحرب التي تقتات على الشعب السوري أن تبقى طاحونةً لا تكفّ عن الدوران، وطحن كل أشكال الحياة والهوية الممكنة، بدعم من أصدقاء هذا الشعب الذين لم يقدّموا من الدعم غير التمويل والتسليح لتلك الفصائل، على أن يبقى العنف سيد المرحلة، العنف الذي يتبارى به داعمو الشعب وداعمو النظام، وكلٌّ يتاجر بحرصه على وحدة سورية وحرصه على شعبها.

هذا الحراك الذي ترجم مقولة أساسية، هي “أن الثورات لا تقوم بشكل تعسفي ومقصود، بل تكون دائماً، وفي كل مكان، نتيجة حتمية لظروفٍ مستقلة كل الاستقلال عن إرادة الأحزاب والطبقات الاجتماعية وقيادتها”، وقع وفق منطق حتمية الوقوع، لما توفر لدى الشعب السوري من أسباب الثورة على واقع قمعي خانق، معيق للتطور والسير في ركب الحضارة الإنسانية والعيش الكريم الذي هو من حق كل فردٍ بشري، لكنه تعرض لانتكاسة مريعةٍ، لا يمكن سرد أسبابها هنا، إنما يمكن القول إن التمسك بالعنف وسيلة لحرف الحراك، وتحويله إلى حرب كارثية بالمطلق، هو المعضلة الكبيرة التي يجب تسخير كل الإمكانات لفهمها وتفكيك عقدها والسيطرة عليها.

العنف الذي ابتلعت دوامته كل الأطراف بطريقةٍ لم يعد من الممكن معها التفكير بوسائل أخرى، وصار وحده بازار الموت الرائج الذي نرى نتائجه الراهنة في حلب التي هي الآن بؤرة

“صار شعار لا بديل عن النصر، أو أنا أو لا أحد، ديدن الأطراف كلها مجتمعة” المحرقة السورية، وستكون بعدها مثلما كان قبلها بؤر أخرى، أنتج حالة من الذعر الجماعي واليأس الجماعي لدى جزءٍ كبير ممن بقي من الشعب السوري داخل البلاد، أو حتى خارجها، بعدما أنهكتهم الحرب، ودفع بعضهم إلى التفكير بصوت عالٍ، معلناً القول: ليتها لم تكن.

“ليتها لم تكن” قالها بلوعة حارقة الشاعر السوري، منذر مصري، فتعالت الأصوات من هنا وهناك تستنكر ألمه وتدين تصريحه، ومنهم من وصل إلى حدّ اتهامه في انتمائه ووطنيته، وهو السوري الذي يقدم نفسه إنساناً وإنساناً فقط “وأنا في الحقيقة، كما يؤكّد الكثيرون، لا علاقة لي بالسياسة، وربما بات لا علاقة لي بالمنطق.. فلولا ذلك لحملت نفسي وغادرت.. أو على الأقل.. خرست”.

أظن، وأنا المواطنة السورية التي ما زالت على قيد الحياة لتشاهد وتشهد على الخراب السوري، أن جزءاً كبيراً من الشعب السوري الذي لا يعرف السياسة، ولم يُسأل رأيه في هذه الحرب، يصرخ، في السر والعلن، بما كان منذر مصري أجرأ على إشهاره، ومنهم من يقولها بمواربة لها دوافعها، ليس أقلّها الخوف من سلطةٍ ما تدين وتحاسب، لا أقصد هنا من هم موالون للنظام، فأولئك قد يقولونها بمنطق الشامت أو المُدين، إنما من هم محسوبون على المعارضة التي شكلت أكبر خيبةٍ وأعظم عثرةٍ في طريق أحلام الشعب السوري، يقولونها بتعابير متباينة، فيها من الرمادية ما فيها، ومن التلاعب بالكلمات والألفاظ، ومن التواطؤ اللغوي ما يشي بنزوعٍ حقيقي إلى التعبير عن الخذلان والندم، فلماذا تحوّل سوريون كثيرون، وبالأخص من نخبهم، إلى ديّانين لبعضهم بعضاً؟

لا سيد في سورية سوى العنف، ولا حياة إلّا بما يقرّره العنف، ولا بارقة أمل إلّا بالسراب الذي تفبركه وسائل الإعلام، بانتقائيتها المدروسة بحرفيةٍ عاليةٍ للمشاهد والصور والتصريحات، والعنف الناعم الذي تمارسه تلك الوسائل على وجدان الناس وأرواحهم، بتقديم أجنداتها بطرق ماكرة توحي بحرصها على الشعب السوري، بينما تخدّره ولا تبقي في وعيه إلّا على مساحةٍ تتسع لخطاباتها المحرّضة المثيرة للطائفية والفتنة، لكل منها طرقه وأجنداته، بين وسائل موالية أو صديقة للنظام، وأخرى معارضة وداعمة لها، والجميع يتشابهون في الكذب واجتزاء الوقائع لتغييب الحقائق.

“(ليتها لم تكن).. أزفرها مع المكلومين، ومع الأيتام، والمشرّدين، والغرقى.. مع أربعة

“الخسارة الأكبر بالأرواح المعطوبة التي سيزداد عطبها، فيما لو طالت الحرب أكثر” ملايين سوري يعانون ضنك العيش في مخيمات الذل والهوان.. (ليتها لم تكن).. أزفرها مع البسطاء الخائفين، الذين لليوم لا يعرفون ماذا سيكون مصيرهم ومصير أبنائهم. وعندما يسألون أحداً ما ليطمئنهم، يجيبونهم: “ما زال هناك ثمن كبير عليكم أن تدفعوه!؟” مع الذين يقولونها في قلوبهم خمسين مرة باليوم، إلاّ أن يأسهم أخرسهم.. مع الذين يستيقظون من نومهم، ويتمنّون لو أن ما حصل كان كابوساً آخر، كبقية كوابيسهم”. من منا لم يقضّ مضجعه هذا الرجاء اليائس، نحن الذين بتنا في منطقةٍ رجراجةٍ بين الحياة والموت، وصار شعورنا بمعنى الوطن كمن يمشي خارج مجال الجاذبية؟ فبأي حقٍّ يُصادر بعض الذين أمطرونا بالشعارات، على مدى أكثر من خمس سنوات، بخطاباتٍ ثوريةٍ، وهم ينعمون بحياة هادئة، بعيداً عن الموت والخراب والتهجير، يعيشون تحت سماءٍ لا تمطر براميل الموت، وفي مدن أقصى دوي يشقّ فضاءها هو صوت مفرقعاتٍ وشهب نارية في احتفالية فرح وحياة، بأي حقٍّ يتمنى أحدهم لمن يزفر حريق صدره أن ليته لم يكن؟ ألا يلتفت، ومن مثله، إلى غياب المعنى السامي لثورة الشعب السوري، وإلى كل المعاني البديلة التي تحفر على الأرض السورية بدماء أبنائها، وعلى قلوبهم التي حولتها الحرب إلى صخور بركانية، تحمل سرّ الحرائق والحمم في كينونتها؟ صار شعار لا بديل عن النصر، أو أنا أو لا أحد هو ديدن الأطراف كلها، مثلما لو كانوا نسخةً عن النظام، وهو يجسّد النزعة التسلطية التي تتعارض مع أهداف الثورات الطامحة بالحرية والعدالة الاجتماعية والتداول الديموقراطي للسلطات. وتحول الحراك السلمي السوري الذي صحيح أن النظام دفعه إلى العسكرة، لكنه تمسّك فيها بسرعةٍ كبيرة، مثلما لو أنها الخيار الوحيد لنجاح الثورات، إلى حرب وساحة عنف تتبارى أنظمة ودول كثيرة في تغذيته وتمويله.

ليتها لم تكن، زفره ألم وحسرة، كما قالها منذر مصري، لكنه، كإنسان سوري، لا أظنه يندب الثورات وينكر على الشعب السوري ثورته، إنما يريدها ثورةً تتحلى بأخلاق الثورات، وتتحالف مع الزمن، من دون أن تحرق مراحل بتسلحها، فتحرق الوطن معها.

آن للسياسة أن تتفعل، وأظنّ أن من يصرّ على إبقاء شعلة الحرب مستعرة بهذه الطريقة اللا مجدية، لا يكترث كثيراً بالفاتورة البشرية المدفوعة، ليست الخسارة بالأرواح التي قضت في هذه الحرب اللعينة، بل الخسارة الأكبر بالأرواح المعطوبة التي سيزداد عطبها، فيما لو طالت الحرب أكثر، حيث ستفقد سورية قدرتها على النهوض وترميم نفسها وإعادة بنائها من جديد.

لا للعنف. لا أصدقاء للشعب السوري، هناك أصدقاء للمصالح، هناك داعمون للنظام، وداعمون للمعارضة، وهناك من يريد لهؤلاء الداعمين إطالة أمد اللعب الغبي في لعبة الحرب والدم.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى