صفحات الناس

في سوريا.. أكثر من مجرّد موت

آدم شمس الدين

فرانشيسكا بوري صحافية إيطالية، نشرت كتابين، الأول عن كوسوفو والثاني عن “إسرائيل” وفلسطين، أثناء عملها كناشطة لحقوق الإنسان. فيما يلي ترجمة للمقال الذي نشرته بعنوان “عمل امرأة: الحقيقة الملتوية لمراسلة ايطالية حرة في سوريا”، في موقع جامعة كولومبيا للصحافة.

وأخيراً راسلني، بعد أكثر من سنة من الكتابة الميدانية، أصبت خلالها بحمى التيفوئيد، وبطلق ناري في ركبتي. شاهد رئيس تحريري الأخبار وظنّ أنني من ضمن الصحافيين الايطاليين المختطفين، فبعث لي بريداً يقول فيه: “إذا تمكنتِ من الحصول على الإنترنت، فهل بإمكانك “تغريد” اعتقالك؟”.

في اليوم نفسه، عدت إلى معسكر للثوار، حيث كنت أقيم في الجحيم الذي يسمّى حلب. في وسط الغبار والجوع والخوف، تمنّيت أن أجد صديقاً، أو كلمة طيبة أو ربما عناقاً. لكنني لم أجد سوى رسالة أخرى من كلارا، التي تمضي عطلتها في منزلي في إيطاليا. كانت قد بعثت بثماني رسائل شبيهة، كلها بعنوان “طارئ”. رسالة اليوم تسأل عن قسيمة المنتجع الذي أتردد عليه، لتتمكن من الدخول مجاناً. الرسائل الأخرى في بريدي كانت على الشكل التالي: “مقال ممتاز اليوم، ككتابك عن العراق”. لسوء الحظ، كتابي لم يكن عن العراق، بل عن كوسوفو.

لدى الناس صورة رومانسية عني كمراسلة حرّة، وبأنني استبدلت استقرار الراتب الشهري، لتغطية الأحداث التي تثير اهتمامي. لكننا لسنا أحراراً على الإطلاق، بل عكس ذلك. الحقيقة هي أن الفرصة الوحيدة المتاحة لي اليوم هي البقاء في سوريا، حيث لا أحد يريد البقاء. ليس في حلب فقط على وجه التحديد بل على الجبهة المشتعلة. المحررون في ايطاليا لا يسألون عن شيء سوى الدماء والمعارك. أكتب عن الإسلاميين، وشبكاتهم الاجتماعية، مصادر قوتهم (وهي مادة أشد تعقيداً من كتابة قطعة عن المعارك على الجبهة). أحاول جاهدة شرح الوضع بكل تعقيداته، فألقى جواباً واحداً: “ستة آلاف كلمة، ولم يمت أحد؟”.

كان علي أن أعرف جلّ ما يريده المحررون منذ أن طلب مسؤولي أن أكتب مقالاً عن غزة، حين كانت تقصف كالعادة. وصلتني رسالة تقول: “تعرفين غزة عن ظهر قلب، ليس مهماً إذا كنت في حلب”. في الحقيقة اخترت الذهاب إلى سوريا بعد أن رأيت صوراً في مجلة “التايمز” للمصور اليسيو رومينزي، الذي تم تهريبه إلى حمص عبر أنابيب المياه، حين لم يكن أحد يدري أن حمص موجودة على الخريطة. شاهدت لقطاته، أثناء الاستماع إلى الراديو. عيون تنظر إليّ، عيون أناس قتلهم الجيش السوري. انتابتني صحوة ضمير، وقررت حينها أن عليّ الذهاب إلى سوريا حالاً. لا فرق بالنسبة للمحررين سواء كنت تكتب من حلب، غزة أو روما. يدفع لك المبلغ ذاته: 70 دولاراً للمقال. حتى في أماكن كسوريا، الأسعار ترتفع نسبيا فقط. عدم القدرة على تحمّل نفقات تأمين على الحياة ليست المشكلة الوحيدة هنا، يعرف المحررون أن 70 دولارا للمقال ستدفعك إلى التوفير في كل شيء. يعلمون أيضاً انه في حال تعرّضك لإصابة خطيرة، ستتمنى الموت بدلاً من النجاة، لأنه ليس باستطاعتك تحمّل نفقات الإصابة. لكنهم سيشترون مقالك على أية حال، حتى لو لم يقدموا يوماً على شراء حذاء رياضي صنعه طفل باكستاني مُستغل.

من شارع إلى شارع

مع تطور وسائل الاتصال، هناك ميل للظن أن السرعة هي المعلومة. لكن ذلك الاعتقاد مبنيّ على منطق مدمر. المحتوى الآن هو نفسه في كل المجلات والجرائد، ولم يعد أي منها يتمتع بحيز خاص، بذلك لم يعد هناك حاجة لتوكيل مراسل. المشكلة اليوم هي في الإعلام لا في القارئ. القراء موجودون، وعلى عكس ما يقول المحررون، القراء أذكياء، يطلبون البساطة، من دون تبسيط. يريدون أن يفهموا، وليس فقط أن يعرفوا. في كل مرة أنشر رأي أحد الشهود العيان في الحرب، أتلقى العديد من الرسائل من أشخاص يقولون “مقال جميل، مشهدية رائعة، لكن أريد أن أفهم بالضبط ما يجري في سوريا”. أحب دائماً أن أردّ بالقول، انه ليس باستطاعتي ان أقدم مقالاً تحليلياً، لان المحررين سيقولون ببساطة: “من تظنّين نفسك؟”، علماً أنني حائزة على ثلاث شهادات، وكتبت كتابين، وأمضيت 10 سنوات في عدد من الحروب، بداية كناشطة في حقوق الإنسان، وبعدها كمراسلة حربية. وشبابي تبخّر حين تطايرت في وجهي بقايا دماغ في البوسنة حين كان عمري 23 سنة.

لا يوجد في سوريا سوى مراسلين أحرار. إنها حرب قذرة. المتحاربون من الموالين والمعارضين، قريبون جداً من بعضهم البعض إلى درجة أنهم يصرخون على بعضهم البعض خلال المعركة. للوهلة الأولى لا تصدق أن شكل هذه المعارك التي قرأت عنها في كتب التاريخ، تحصل الآن أمامك. حروب اليوم، هي حروب الطائرات من دون طيار، لكن هنا يقاتلون مترا بمتر ومن شارع إلى شارع. الأمر مخيف جداً. رغم ذلك، يعاملك المحررون في ايطاليا كالأولاد. إذا حصلت على صورة للصفحة الأولى، يقولون انك كنت محظوظاً، وفي المكان المناسب في الوقت المناسب. حين حصلت على خبر حصري في تشرين الثاني الماضي عن مدينة حلب الأثرية، المصنفة في منظمة الاونيسكو، وهي تحرق خلال محاولة النظام والمعارضة السيطرة عليها، عندما كنت أول صحافية أجنبية تصل إلى المكان، قالوا: “كيف يمكننا تبرير أنفسنا، ان مراسلينا الرسميين لم يتمكنوا من الوصول حين تمكنت أنت من ذلك؟”. وتصلني رسالة بعد فترة قصيرة يقول مديري فيها: “سأشتريها ولكن سأنشرها باسم أحد المراسلين الرسميين في الجريدة”.

مجانين.. وامرأة

إضافة إلى كلّ ذلك، أنا امرأة. في أحد الأيام، وأثناء قصف عنيف، كنت أجلس في زاوية، وعلى وجهي الملامح الوحيدة التي توحي باقتراب الموت في أية لحظة، فيأتي أحد المراسلين وينظر إلي صعوداً ونزولاً، ويقول: “هذا المكان ليس لائقاً لامرأة”. ماذا يمكنني أن أقول له؟ يا غبي هذا ليس مكاناً لائقاً لأحد. إذا كنت خائفة، هذا لأنني ما زلت عاقلة. رغم كل القتل والدمار والموت، عند رؤية طفل تمزقت أطرافه، يهرعون إليّ ليطمئنوا على مشاعري، جوابي دائماً يكون: “أنا مثلكم”.

سوريا لم تعد سوريا. أصبحت مكاناً للمجانين:

– ايطالي كان عاطلاً عن العمل، فانضم إلى القاعدة، وأمه تبحث عنه من شارع إلى شارع.

– سائح ياباني على الجبهة منذ أسبوعين يقول انه بحاجة إلى بعض الإثارة.

– طالبة قانون سويدية أتت لتجمع أدلة عن حصول جرائم حرب.

– موسيقيون أميركيون، مع لحى تشبه لحية بن لادن، ويصرّون على أن ذلك سيساعدهم على الاختلاط، رغم أنهم من البشرة الشقراء (أحضروا معهم أدوية ملاريا، رغم عدم انتشار هذا المرض، ويريدون توزيعها أثناء عزفهم على الكمنجات).

– موظفون من الأمم المتحدة بكل فروعها، تطلب من أحدهم إن كان بإمكانه مساعدة طفل أصيب بداء الليشمانيا (مرض جلدي تسببه لسعة ذبابة رمل) ونقله إلى تركيا مع أهله للعلاج، فيقول إنها حالة فردية، ولا يمكنهم التعامل سوى مع “الطفولة” ككل.

لكننا صحافيو حرب في النهاية. أليس كذلك؟ مجموعة من الإخوة والأخوات. نخاطر بحياتنا لإيصال صوت من لا صوت لهم. رأينا أشياء لم ولن يراها معظم الناس. نحن ثروة من قصص تحكى على موائد العشاء، الضيوف المميزون الذين يريد الجميع استضافتهم والإنصات إلى حكاياتهم. يظن كثيرون أن تشابه ظروفنا يجعلنا متّحدين. لكن في الحقيقة، نحن ألد أعداء أنفسنا، والسبب هو 70 دولاراً للمقال. الأموال موجودة، والحصول على مبلغ من المال لقاء كتابة تحقيق عن فتيات برلسكوني، أمر سهل. لكن في حالتنا، إذا طلبنا 100 دولار مقابل قصة أو مقال، هناك دائماً من هو مستعد لكتابتها مقابل 70 دولارا.ً إنها المنافسة الأكثر شراسة. منافسة دفعت زميلتي بياتريس اليوم إلى توجيهي إلى المكان الخاطئ، لكي تتمكن من تغطية التظاهرة بمفردها. فوجدت نفسي وسط وابل من رصاص القنص نتيجة خديعتها، فقط من أجل تغطية تظاهرة.

البحث عن جائزة

نفعل كل ذلك واهمين بأننا هنا لكي لا يقول أحد: “لا أعرف ما الذي يحصل في سوريا”. لكن الحقيقة هي أننا هنا لكي نفوز بجائزة، ولنُعرف أمام الجميع. نحارب بعضنا البعض وكأن هناك جائزة “بوليتزر” تنتظرنا، في حين لا يوجد هناك شيء. نحاط بين نظام، لا يعطى تأشيرات سوى لصحافيين ضد المعارضة، وبين معارضة لا تسمح لك برؤية شيء غير ذلك الذي يريدون لك رؤيته. الحقيقة هي أننا لا نجسّد سوى الإخفاقات. بعد سنتين من تغطية الأحداث، قراؤنا لا يذكرون أين هي دمشق بالتحديد. جلّ ما يعرفون ويرددون أن في سوريا فوضى. لماذا؟ لأن أحداً لا يفهم شيئاً عن سوريا، كل ما يعرفونه هو الدماء.. الدماء ثم الدماء. ونتيجة لذلك، السوريون لا يطيقوننا الآن. لأننا لا نقدّم للعالم سوى صور، كتلك الصورة لطفل في السابعة من عمره وهو يدخّن سيجارة وفي يده رشاش كلاشنيكوف. صورة انتشرت على صفحات الجرائد والمواقع الالكترونية في كل أنحاء العالم، صورة لن تدفع بالناس سوى إلى القول: “هؤلاء هم السوريون، هؤلاء هم العرب البرابرة”. حين وصلت إلى هناك، أوقفني بعض السوريين ليقولوا لي: “شكراً لقدومك لتري العالم جرائم النظام”. اليوم أوقفني أحدهم وقال لي: “عار عليك”.

لو فهمت شيئاً عن الحرب، بعد كل ذلك، لما كنت انحرفت عن هدفي الأصلي لأكتب عن معارضين وموالين، عن شيعة وعن سنة. القصة الوحيدة التي يجب الكتابة عنها في الحروب هي القدرة على العيش من دون خوف. كل شيء يمكن أن ينتهي في لحظة. لو كنت أعرف ذلك، لما كنت عشت في خوف بأن أحب، بأن أتجرأ على شيء ما في حياتي، بدلاً من أن أكون هنا أعانق نفسي في زاوية في الظلام، أندم على كل شيء لم أتمكن من القيام به، أو قوله. أنتم الذين ستكونون على قيد الحياة غداً، ما الذي تنتظرونه؟ لماذا لا تحبون بما فيه الكفاية؟ أنتم الذين تمتلكون كل شيء، مم انتم خائفون إلى هذه الدرجة؟

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى