أيمن الشوفيصفحات المستقبل

في سوريا.. دخولهم المتآكلة ورقةٌ لا تلزمهم بشيء/ أيمن الشوفي

 

 

يطوون البارحة، كأنّها ورقةٌ جفَّ ماؤها، صارت لا تلزمهم بشيء، يضعونها قريباً من فنجان القهوة، يتأملونها كما لو أنهم يحسّونها باهتةً في مذاق السائلِ الأسودِ الكثيف، لا جديدَ يرتّب يومهم، كأنه ورقةٌ جفَّ ماؤها، صارت لا تلزمهم بشيء، ليضعوها قريباً من بنطال الـ”جينز” باهت اللون قبل ارتدائه، أو قريباً من حذاء “الشامواه” متآكل الوجه لأنه صُنعَ على عجلٍ، كأنه ورقةٌ جفَّ ماؤها، فصارت لا تلزمهم بشيء، يضعونها قريباً من عتبة البيت، يخرجون إلى نهارهم، يحسبون تكاليفه، ويضربون ناتجه بثلاثين، يفطنون إلى تقلّبات سعر صرف الدولار، يدسّون الفارق الحسابي الجديد إلى حسابات نهاراتهم القادمة، كأنهم ورقٌ جفَّ ماؤه، فلم يعد يلزمهم بشيء.

مجرد اطمئنان

يعود فريد العفلق إلى يومياته التي يدوّنها بانتظام منذ عام 2005، ليتأكد من تاريخ آخر مرّةٍ تلقّى فيها مصروف جيبٍ من والدهِ. والدهُ الآن ميّت. كلُّ ما تبقّى من ذكراه صورةٌ فوتوغرافية معلّقة على حائط الصالون الشمالي. ينتبه فريد في ساعات الظهيرة التي تنتمي بدقةٍ إلى ساعةٍ واحدة يتناول فيها الغداء، وإلى ساعتين هما فضاء قيلولته الاضطرارية. بعدها، عليه أن يقصد محلاً لبيع الألبان والأجبان والمخلّلات. عمله هناك يبدأ عند الخامسة مساءً وينتهي عند العاشرة ليلاً. كل ما يجنيه من عمله الإضافي لا يزيد على ستة آلاف ليرة (34 دولارا) في الشهر. عليه أن يحيا بهذا المبلغ قدر المستطاع. وظيفته الحكومية في أحد المصارف العامة لم تعد تقيه عوز الحاجة، مع أنه حاصلٌ على إجازةٍ جامعية في الاقتصاد، غير أن صافي دخله الشهري بعد اقتطاع قسط القرض، وباقي صنوف الضرائب لا يتعدى 16 ألف ليرة (89 دولارا). يقول انّه استغنى عن كثيرٍ من الأساسيات الغذائية في حياته، لارتفاع أثمانها. بمقدوره أن يجزم أيضاً بأنه على وشك نسيان طعم اللحم والبيض والفواكه الموسمية. ينبغي عليه كما يعتقد ابتكارَ تقنينٍ متقن، يبقي على أنفاسه قادرةً على الصعود وعلى الهبوط، وعلى أن تقبل العدّ أيضاً فلا تفارقهُ فجأة.

مثل هذه الحياة لم تعد حكراً عليه، بل تقبل القسمة على كثيرين من موظفي الدولة في سوريا، ممن أبقاهم القدر عالقين في أرضٍ صارت احتمالات النجاة فيها والإفلات من أشراك الموت المنصوبة بإحكامٍ شحيحةً، تتخطّى الموت بقذيفةِ هاون، أو برصاصةٍ، وتخصُّ ميسوري الحظ.

ثوب للنجاة

تخرّجها من كلية التربية أيقظَ فرحها، فصارت حالتها على الـ”واتس أب” لأسبوعٍ كامل: “باركولي… تخرّجت”. فرحٌ شحيح النيات كما تصفه صفاء الكيلاني، لأن قبولها لدى وزارة التربية للعمل كمدرّسة كان غير متاحٍ، بعدما تجاوزت شرط العمر المسموح به، وصار يلزمها استثناء من الوزير. والوزير في سوريا لا يزالُ ابن السلطة الفصامية عن الواقع. سلطةٌ لم يغيّر حراك عام 2011، ولا الحرب الحالية، من استعلائها كبنّيةٍ منفصلة تماماً عن باقي بنى الواقع. فرحها كان سريع العطب، وقَبِلَ النضوبَ بسرعة، غير أنه قَوي على إيقاظ صوت ماكينة الخياطة من ماركة “سنجر”، تلك الآلة التي ألفتها صفاء سنواتٍ طويلة رافقت دراستها الجامعية، لاستخراج مصروفها الشخصي منها. بالكاد أسرتها تستطيع تدبر نفقات الحياة، وتنهمك في ابتكارِ تقنينٍ متقن يبقي على أنفاسهم قادرةً على الصعود وعلى الهبوط، وعلى أن تقبل العدّ أيضاً فلا تفارقهم فجأة.

تقول: “أمّن لي أحد العاملين في الأجهزة الأمنية عقداً موقتاً لثلاثةِ أشهر في مديرية الزراعة. عملٌ بعيد عن اختصاصي، لكنه يلزم كي لا يدعونا الجوع إلى مأدبته اليومية”.

في فتراتِ ما بعد الظهر، حيث لا هواءَ باردا تقذفه شفرات مكيّفٍ من نوع “سامسونغ” مثلا، بل هواءٌ ساخنٌ يدور في غرفتها بلا تعب، وتقذف به مروحةٌ من نوع “المنارة” محليّة الصنع، تراقب صفاء الدرزات المتلاصقة التي تحدد نهايات الثوب الذي تخيطه، درزات بلونٍ برتقالي، وأخرى باللون الأسود. عيناها المتعبتان بمقدورهما البكاء، لكنها تفضّل تأجيله إلى المساء حيث يسود الظلام، وتختفي الإضاءة، ولفحات الهواء الساخن المنبعث من المروحة لأربع ساعاتٍ متواصلة. تستلقي على سريرها وتبكي، تعتصرُ بين يديها وسادةً متعبةً مثلها، وتنتظر موتاً قد يزورها في أي وقت. موتٌ يشبه ورقةً جفَّ ماؤها، فصارت لا تلزمها بشيء، تضعها قريباً من ماكينة الخياطة، وتنام.

(دمشق)

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى