صفحات الثقافة

في سوريا مسرح خارج المؤسسة وأمكنة تصل الى الملجأ والسجن

راشد عيسى
-شهدت بدايات القرن المسرحي السوري فورة لجهة نشاط نوع مسرحي بعينه هو المونودراما، عرض الممثل الوحيد، الذي يتيح إمكانية للحركة بين المهرجانات المسرحية، التي تشكل طموحاً ونوعاً من التقدير للعرض المسرحي، حيث تخف أعباء السفر، ويمكن القول إنه مسرح في حقيبة. وما دام مشتغلو هذه العروض يتخففون من عدد الممثلين، فمن باب أولى أن يتخففوا من ديكور أو معدات ثقيلة.
موجة المونودراما الجديدة يمكن التأريخ لها بمسرحية «عيشة» التي كتبها التونسي المقيم في دمشق حكيم مرزوقي من بطولة السورية رائفة أحمد. «عيشة» حظيت بإقبال كبير، وكانت اللبنة الأولى لتأسيس «مسرح الرصيف» الذي تابعه مرزوقي مع ممثلين ومخرجين آخرين. قدمت «عيشة» مراراً، وتلتها «ذاكرة الرماد» مع مها الصالح ممثلة، ورولا فتال مخرجة. ثم «اسماعيل هاملت» التي لعب بطولتها سامر المصري، ومن ثم لتتفرع تجربة «مسرح الرصيف» وتتشعب، حيث ستخوض المخرجة رولا فتال تجربة منفصلة مع مونودراما «الكونترباص» نص الألماني باتريك زوسكيند من بطولة مازن عباس، وسيمضي مرزوقي إلى مونودراما «لعي»، المسرحية التي أدى البطولة فيها باسم عيسى.
تجربة «الرصيف» شجعت الكثيرين على خوض تجربة المونودراما، ولعل الممثلة الراحلة مها الصالح دخلت الإخراج المسرحي من باب «الرصيف». أراد «مسرح الرصيف»، وكما يوحي اسمه، أن يقدم شخصيات من الهامش، والنصوص المقدمة كانت كلها موضوعات محلية وشعبية الطابع. هكذا قدم العانس وصبي الحمام والراقصة والطبال وسواها. لكن بدا أن التجربة بلا مشاغل ولا أسئلة مسرحية، بلا أسئلة حول الشكل المسرحي. أما البحث عن شخصيات الهامش، عن محرومين ومعذبين ومهمشين فلم تكن إلا نوعاً من التكرار والعزف على وتر تحبه الجموع وتحفل به. لكن أهمية الإشارة إلى التجربة، تجربة «الرصيف»، فلأنها ما زالت تتناسل «مونودراميين» حتى الساعة. صحيح أن ليس هؤلاء من ابتكر هذا النوع، وصحيح أن لزيناتي قدسية وممدوح عدوان تجربة في فرقة «أحوال» التي اقتصرت على المونودراما في ثمانينيات القرن الماضي، لكن تجربة «الرصيف» نفسها كانت تفرّخ ممثلين سرعان ما ينفصلون عنها، ويؤسسون «رصيفهم» الخاص، وأحياناً يستأثرون وحدهم بـ«الرصيف». وأبرز المنسلّين من هذه التجربة الممثل نوار بلبل، الذي أسس مع زميله رامز أسود فرقتهما الخاصة، وأرادت الفرقة أن تعزف بوضوح على نغمة «الرصيف» فاتخذت لها اسم «مسرح الخريف»، وقدم الممثلان الشابان بلبل وأسود معاً تجربتي «حلم ليلة عيد»، و«المنفردة».
غياب الكاتب
لكن المشكلة لم تكن هنا، لم تكن في تنامي هذا النوع من الأشكال المسرحية على حساب سواه، المشكلة أن المونودراما باتت هي أساس النص المسرحي السوري. وبالطبع لا تتحمل «الرصيف» وسواها وزر ذلك، بل إن ذلك يعتبر مؤشراً على غياب الكاتب المسرحي. وإذا كنا نقول غياب الكاتب لا النص المسرحي، فلأن المكتبة تغص بمئات النصوص العربية أو المترجمة، ما يؤكد كسل مخرجي اليوم في العودة إلى نصوص «الآباء». إما إذا كانت الذريعة هي في أن ينهل المسرح من الراهن واليومي والمعيش، فلم يكن واضحاً أن المسرح السوري الجديد كان على هذا التماس مع الراهن.
لم يفرز العقدان الأخيران كتاباً مسرحيين مكرسين للمسرح، ولم نشهد نصوصاً لامعة، فالمسرح لم يعد إغراء وحافزاً. بدلاً منه ذهب الكتاب إلى السيناريو التلفزيوني، حيث إمكانية أفضل للعيش، كما للبقاء في الضوء. لن يجد الكاتب في المسرح لا إمكانية العيش، ولم يعد المسرح ذلك المكان الحامل لمشاريع نهضوية حالمة، كتلك الأيام التي حملت مسرح سعد الله ونوس وممدوح عدوان وسواهما.
إذاً فقد راح المخرجون يكتبون نصوصهم بأنفسهم، أو يمارسون السطو على ارتجالات ممثليهم، ثم يحولونها إلى نصوص مسرحية مطبوعة باسمهم، وغالباً ما يكون النص المطبوع اختباراً حاسماً لأهمية العمل المسرحي الذي صفقنا له طويلاً على الخشبة.
مونودرامات
المهم أن كثيراً من العروض التي كتبت للخشبة لم تكن سوى مونودرامات متجاورة، حتى لو اكتظت الخشبة بالممثلين. مثال ذلك تجربة عبد المنعم عمايري الذي قدم «صدى»، «فوضى»، «تكتيك»، «وأخيراً «سيليكون». «صدى» نجت من أسلوب الكتابة المونودرامية، وكانت تتناول حياة زوجين يدخلان في رتابة وملل وتفاصيل الحياة الزوجية. ولا ندري إن كان يصح هنا الحديث عن سلسلة من الأعمال المسرحية تحت عنوان «مسرحيات الأزواج» التي تتناول الموضوعة نفسها، فإلى جانب «صدى» قدمت المخرجة الراحلة مها الصالح مسرحية غارثيا ماركيز اليتيمة «خطبة لاذعة ضد رجل جالس»، وقدمت الأردنية سوسن دروزة مع ممثلين سوريين «الخبز اليومي»، كما قدمت مواطنتها صبا مبارك مسرحية «مجرد تعب» في إطار مسرح «تياترو» الدمشقي.
وإذا عدنا لعرض عمايري «فوضى» فهو يصلح نموذجاً لتلك الأعمال التي تبدو وكأنها مشغولة لممثل وحيد، ففيها مجموعة من النساء يحكين كل على حده عذاباتهن، وأزماتهن، من دون تشابك حقيقي بين مختلف الشخصيات، من دون حوار بينهن. عروض عمايري حظيت دائماً بإقبال جماهيري لافت، فهو النجم التلفزيوني الذي يمكن له أن يذلل عقبات إدارية وإنتاجية كثيرة، ورغم أن المسرح بالنسبة له أشبه باستراحة بين مسلسلين فقد استطاع أن يكون اسماً في المهرجانات، وقد حازت مسرحيته «فوضى» (2005) جائزتي أفضل عرض وأفضل إخراج في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي. وبتكريم رئاسي في سوريا لم يحظ بمثله من أفنى حياته ويومياته في كواليس المسرح.
تجربة عمايري عموماً تعتمد على الممثل، الذي غالباً ما يكون متحمساً للعمل في ظل هذه الضمانات. هكذا حظيت مسرحيات عمايري بممثلين مرموقين، استطاعوا بالفعل أن يحملوا هذه العروض ويرفعوا من شأنها.
وقد يندرج عرضا المخرجة الشابة رغدا شعراني «شوكولا» (2006)، «لحظة» (2010) في سياق مشابه لتجربة عمايري في الكتابة، إذ اعتمدت شعراني، أياً كان العرض، على الممثلين الذين يروون قصصهم، وهي دائماً حكايات عن العزلة والجريمة واليتم والشذوذ والمخدرات وسواها من مشاغل الشباب. يصعب أن يتذكر المرء تجارب شعراني من دون ذلك الضجيج الذي يلف العرض، إذ تبدو المخرجة وكأنها تسعى إلى توظيف كل ما يمكن توظيف من تقنيات؛ كاميرا فيديو ترافق العرض على الخشبة، شاشة سينمائية تعرض على الفور، استعادة تسجيلات سينمائية مصورة، رقص، موسيقى، وفي الأساس فإن شخصيات شعراني، ولأنها تنتمي إلى عالم الشباب المعاصر، فإنها تروي حكاياته بشكل منفرد وراقص، يروي الممثل حكايته كما لو أنه يغني الراب.
تجارب عديدة شابة ومتحمسة شهدها المسرح السوري، بعضها انفرط عقده، أو تحول إلى تجارب أخرى، غير أنها تعد بالكثير، وبالضبط لأنها غالباً كانت خارج المسرح الرسمي، الذي بات محتكراً من قبل أسماء بعينها. وبخصوص هذا الاحتكار، لا ندري إن كان المسرح سيظل إلى أبد الآبدين يختبر أسماء كهشام كفارنة وزيناتي قدسية ومانويل جيجي ومأمون الخطيب. فوق ذلك يمكن أن نتوقع ما الذي سيحل بالمسرح وبالتجارب الواعدة حين يتسلم بعض هذه الأسماء مكانة ثقافية رسمية، كأنْ يكون أحد عديم الحيلة والموهبة مديراً للمسرح القومي (أحد أبرز الجهات المنتجة للمسرح)، أو رئيساً لقسم التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية، المؤسسة التعليمية المسرحية الوحيدة، فأي هزل في التعامل مع الأجيال المسرحية الشابة، وأي مستقبل يرتجى.
غير أن السوريين يثبتون، يومياً كما نلاحظ، أنهم لن يتوقفوا عند الهزل الرسمي، ولن يفاجئنا طبعاً أن يكون معظم المسرحيين الجدد، الذين ولدوا خارج المؤسسة، أن يكونوا في صف المناوئين للنظام.
خارج السرب
أواخر التسعينيات بدا أن المسرح الخاص في سوريا في طريقه للانتعاش على غرار ما حدث للدراما التلفزيونية، حين بنى أحد رجال الأعمال فضاءه المسرحي الخاص وفرقته التي أسماها «تجمع سامه». قدم التجمع عدة أعمال من بينها المسرحية الكوميدية «الرجل المتفجر» من إخراج باسم ياخور، و«عشاء الوداع» لبسام كوسا عن نص لآرثور شنيتسلر. البارز بين تلك الأعمال كان «الرهان» عن نص «الحصان» للهنغاري يوليوس هاي (1900- 1975) من إخراج نائلة الأطرش. نص يوليوس هاي لا يخرج عن توجهه في محاربة ثقافة الحزب الواحد في بلاده، حيث يروي كيف عين كاليغولا حصاناً في البرلمان فراح الجميع يهتف بحياة الحصان، بل ويقلدونه ويصهلون مثله.
تجربة «تجمع سامه» لم يكتب لها الاستمرار. يبدو أن الوقت لم يحن بعد ليكون المسرح مناخاً خصباً للاستثمار. رغم حرص التجمع على تقديم أعمال كلها كانت كوميدية، وهي الأقرب إلى مزاج الجمهور.
التجارب الجديدة الأكثر أصالة في المسرح السوري هي تلك التي لم تنضو تحت لواء المؤسسة، حتى أن بعضها قلما وجد دعماً خاصاً، لعل بعضه جاء من المراكز الثقافية الأجنبية، أو من مؤسسات ثقافية تدعم الإنتاج الثقافي في الوطن العربي، من بينها «المورد الثقافي»، أو الصندوق العربي للثقافة والفنون»، وسواهما.
من بين الفرق الجادة كانت فرقة «الساجر»، نسبة للمخرج المسرحي الراحل فواز الساجر، التي قدمت عرض بانتوميم لافتاً بعنوان «غفوة» (2003)، والتي حاولت أن تروي تفاصيل يومية من حياة السوريين عبر الإيماء. سرعان ما انفرط عقد الفرقة ليتوجه بعض أعضائها إلى «فرقة مسرح الاستوديو» التي قدمت مسرحية «أرق» (2004)، وقدمت في إطار مشروع «التواصل مع العالم» الذي نظمه المجلس الثقافي البريطاني. كان عرضاً يتحدث عن الشباب عبر لقاء بين شاب ينوي الرحيل عن المدينة، بفتاة جاءت إلى المدينة من مكان بعيد، ليصبح اللقاء استكشافاً للمدينة وأمكنتها الأليفة.
أما بعض مؤسسي «فرقة الساجر»، وتحديداً المخرج والممثل الشاب رأفت الزاقوت، فقدموا «الجمعية الادبية» نص هنري أوفوري، «حديقة الحيوان» نص الأميركي ادوارد البي، و«غيرة المخدوع» لموليير في إطار «فرقة باب للفنون المسرحية» التي تشكلت العام 2009. وعلى الأقل فإن «حديقة الحيوان» (2010) كان واحداً من أجمل العروض التي قدمت في دمشق، فيما كانت ميزة «غيرة المخدوع» أنه من أوائل عروض مسرح الشارع، التي قدمت في إطار مشروع رائد هو «موسيقى على الطريق».
كذلك قررت فرقة «كون» أن تشق طريقها بنفسها، وقد حصد عرض «دونكيشوت» للمخرج أسامة حلال جائزة أفضل إخراج في أحد دورات مهرجان القاهرة التجريبي. وفي العام 2010 قدمت الفرقة «حكاية علاء الدين» نص كفاح الخوص، وإخراج أسامة حلال، ومن الواضح أن الفرقة تبدي اهتماماً وولعاً بأساليب الفرجة المسرحية، وبتحويل العرض إلى لعبة ممتعة، لكنها ذهبت بعيداً في استنباط لغة تمتع الجمهور حين قررت أن تقدم «حكاية علاء الدين» بلغة كلها مكتوبة على طريقة المقامات.
أماكن بديلة
دأب المسرح السوري في البحث عن أماكن بديلة، ولم يكن ذلك خياراً جمالياً خالصاً، فهو أولاً بحث عن مكان للعرض في ظل شح الأمكنة المسرحية، في ظل عدد قليل من مسارح العاصمة، والأهم صعوبة الحصول على هذه الأمكنة حتى لو لم تكن مشغولة، بسبب التعقيدات الإدارية. لا ندري إن كان هذا هو المسوّغ لذهاب المسرحي الشاب أسامة غنم للعرض في منزل دمشقي قديم عند عرضه «حدث ذلك غداً»(2010)، فقد كان من المستحيل على المتفرج استنباط المعنى من وراء تقديم هذه التوليفة من نص البريطاني مارك رافنهيل «تسوق ومضاجعة»، والألماني فرانز كزافيه كروتز، ونص مشترك لداريو فو وفرانكا راميه بعنوان «العاهرة في المصح العقلي».
وعلى العكس من ذلك فقد بدا سحر عرض سامر عمران «المهاجران» نص سلافومير مروجيك (2008) أنه عرض في ملجأ، في مكان مهمل معد ليكون ملاذاً وقت الحرب، هناك حيث استقر مهاجران يعيشان على هامش المدينة، كان النزول إلى اسفل، وثقل الاسمنت العاري، والكتابة على الحيطان، وقلة الهواء في المكان، كان كل ذلك جزءاً من العرض، وهو أخذ صدى كبيراً، قد يكون استثناء في تاريخ المسرح السوري.
ملاحظتان لا بد من ذكرهما أخيراً، الأولى هي أن غياب الإخراج كتخصص أكاديمي لا يدرّس في سوريا دفع بخريجي قسم التمثيل، وأحياناً قسم الدراسات المسرحية، للتصدي للإخراج، وهم كانوا أبرز أسماء المسرح الجديد. والثانية الحضور القليل للمرأة المخرجة، باستثناء بعض الأسماء، مثل أمل عمران التي أخرجت «امرأة وحيدة» (2010) عن نص لداريو فو وفرانكا راميه، ورغدا شعراني في عرضيها «شوكولا»، و«لحظة»، ونورا مراد في تجربتها مع فرقة «ليش» للمسرح الراقص.
(كاتب فلسطيني في سوريا)
السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى