صفحات الناسوليد بركسية

في شوارع دمشق.. أسد منتصر/ وليد بركسية

 

 

 

يتجاوز رئيس النظام السوري بشار الأسد، حدود الكذب ضمن خطاب البروباغندا التقليدي، فحديثه أمام وزراء حكومته في اجتماع رسمي، عن قيادته سيارته الشخصية ووقوفه أمام إشارات المرور وحتى الحواجز العسكرية كي يخضع للتفتيش. هو محاولة لرسم نفسه كنموذج مثالي للكمال الحكومي “ستاندرد موديل” بين موظفيه الأعلى رتبة في الحكومة، وطريقة لخلق انطباع بأنه يتحكم بتفاصيل الإدارة العليا للنظام بشيء من التواضع “الإنساني”.

حديث الأسد أتى خلال ترؤسه جلسة مجلس الوزراء، الثلاثاء: “كنت أقف على إشارة المرور قبل الحرب وما زلت، ولم أخالف الإشارة ولا مرة، ويضاف إليها اليوم وقوفي على الحواجز”. يتفاخر الأسد بنفسه، كي يهاجم المظاهر “المسيئة” لكبار المسؤولين والوزراء والعسكريين، ليس لشيء محدد بل كي لا يتعرض أولئك المسؤولون لهجوم من الإعلام “الذي لا يمكن ضبطه” للأسف، يحن الأسد هنا لعصر الرقابة السهلة وحجب المعلومات والتعتيم والقمع في الثمانينات أيام والده حافظ الأسد.

ومن جديد يتحدث الأسد عن نفسه بإعجاب، عن قدرته “الفذة” على التعامل مع الإعلام الغربي الذي يصر على مهاجمته، يكاد يبكي وهو يضحك في بحثه عن سلطته القديمة: أنا مظلوم أنا لست ذلك الدموي الذي يدعونه. يمكن بسهولة قراءة تلك الأفكار تجول في رأس الأسد وهو ينتقل في جمله بين الجدية المفرطة في الأوامر للوزراء وبين نكاته وتعقيباته الذاتية وحديثه عن نفسه فقط، في مسرحه الخاص أمام كاميرته التي ستبث ذلك الخطاب على قناته الشخصية في مواقع التواصل، ليتحول كل الخطاب فجأة إلى نوع من المونولوج المسرحي، يعده الأسد لنفسه كي يشاهده ويعجب بنفسه ويصفق لها أيضاً، طالما أن التصفيق مفقود في الجلسة للأسف.

والحال أن الأسد يبدو يائساً طوال الفيديو، لنيل شيء من الاحترام بين الموظفين، وبدا للحظة كأنه يعرف بأنهم يعرفون، كما يعرف الجميع، أنه لم يعد سوى أداة يتحكم بها الروس والإيرانيون عن بعد، أما الأمور الإدارية على الأرض فلم تعد أصلاً في يد الحكومة السورية، بقدر ما هي في يد الميليشيات النافذة على الأرض، في مناطق سيطرة النظام تحديداً. ولهذا كانت نكاته العابرة وتعقيباته التي يرتجف فيها صوته أمام جمود الموظفين الشاردين بعيداً عنه، محاولة للالتفاف على تلك الحقيقة أمام جمهور الموالين، الواهمين حتى اللحظة بالعكس.

يتأكد ذلك بسرعة، على أرض الواقع، مع الأنباء “الغاضبة” التي تناقلتها صفحات موالية للنظام السوري، صباح الأربعاء، عن إغلاق موكب أحد الوزراء لشارع الفردوس وسط العاصمة دمشق بالكامل، مع حشد من المرافقين، وهي المظاهر “المسيئة” التي انتقدها الأسد تحديداً، ولا يظهر ذلك أن مشكلة سوريا ليست في الأسد بل في المسؤولين المحيطين به، حسب تفسيرات الإعلام الموالي للنظام، بل يظهر واقع الحال في البلاد اليوم، بداية باستخفاف أولئك المسؤولين بتوجيهات رسمية تصدر عن “الرئيس” لدرجة نقضها علناً بعد ساعات قليلة فقط من صدورها، وانتهاء بطبيعة السلطة المتغيرة في سوريا ما بعد الحرب أيضاً.

ولا بد من القول أن خطاب الأسد الأخير ومن قبله مجموعة الصور ومقاطع الفيديو التي تظهره يتجول في شوارع دمشق سيراً على الأقدام وفي أحد المطاعم الشعبية، جزء من نمط جديد للأسد “المنتصر” وكأن الحرب انتهت إلى غير رجعة، رغم أن البلاد في الواقع دخلت منعطفاً خطيراً في الحرب الدائرة شرقي البلاد، بعد التطورات العسكرية هناك من جهة والتوترات المتزايدة مع القوات الأميركية، فضلاً عن مظاهر الحرب ونتائجها على المدى البعيد، اجتماعياً واقتصادياً، وإنسانياً، والمتكررة في كافة مناطق سيطرة النظام، بما فيها العاصمة دمشق.

فبينما كان الأسد يتحدث، انتشرت صورة مؤلمة لنازحتين سوريتين، أم وابنتها على الأغلب، يفترشان أحد الأرصفة في دمشق، تنام واحدة بينما تحرسها الأخرى. لا أحد يدري من هما ولا طبيعة الظروف القاسية التي أوصلتهما إلى هذه الحال، ولا يعرف أحد بالطبع ما الذي تفكران فيه في تلك اللحظة التي التقطت فيها صورتهما ونشرت بكثافة عبر مواقع التواصل، ربما تفكران بمنزلهما المهدم أو عائلتهما المفقودة أو برغيف ساخن من الخبز، في واحدة من أقسى المشاهد غير المألوفة في دمشق التي يروج لها النظام منذ سنوات على أنها مدينة آمنة تنعم بحياة ليلية صاخبة، وتخلو من أي مظاهر للحرب.

الصورة المذهلة في توقيت التقاطها، تظهر الفجوة بين ما يقوله الأسد وبين ما يحدث حوله، والأكيد هنا أن بطلتي الصورة المسكينتين لا تفكران بوجه الأسد اللطيف وهو يلقي عليهما تحية الصباح خلال وقوفه على إشارة المرور القريبة منهما، أثناء قيادته سيارته إلى “مجلس الوزراء”، لأنه، حتى لو كانت تلك الكذبة السوريالية صحيحة، لا يعتبرهما أصلاً مواطنتين سوريتين تستحقان منه التفاتة طيبة، إلا لو كان ذلك يعني برميلاً متفجراً او قنبلة حارقة، فالمآسي الإنسانية من هذا النوع لا تتناسب مع معاييره “الممتعة” التي باتت أكثر من عنصرية في تصنيف السوريين، بشكل يتجاوز حدود الموالاة والمعارضة التقليدية.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى