صفحات الرأي

في صعود الحركات الأصولية من منظور مختلف/ كرم الحلو *

الأمم والشعوب كالافراد، منها ازاء المحن والصعاب من ينكفئ الى ماضيه مطمئناً الى مسلماته ويقينياته، مستسلماً الى اعرافه وطقوسه فتتجاوزه حركة الحياة وتقصيه، ومنها من يتميّز بروح التجدد والتحدي والانبعاث منتجاً باستمرار اسباب تقدمه وانخراطه في مغامرة البناء وتجاوز الواقع للمشاركة في المستقبل القومي والانساني على السواء.

في ضوء هذه المقولة اذهب الى تفسير محنة التخلف العربي المزمن والارتداد المأسوي الى الاصوليات المتشددة على الساحة العربية، خلافاً لكل التفسيرات السائدة والمكرورة التي ترى في ذلك نتيجة لانكسار المشروع القومي العربي او للمطامع الاستعمارية الغربية او للوجود الصهيوني في فلسطين، رغم اعترافنا بوجاهة كل هذه الاسباب. لقد استطاع الاوروبيون بعد قرون من الحروب الاهلية والقومية المدمرة ان ينتجوا أسباب وآليات تجددهم ونهوضهم ليشيدوا صرح الحضارة الاوروبية العظيم، وان يتحرروا من ذهنية الالغاء ومحارق التكفير ومحاكم التفتيش ليؤكدوا حرية الفكر والاعتراف بالآخر، وان ينتقلوا من ظلام القرون الوسطى واستبدادها الى الحداثة والانوار، ومن الدولة الاوتوقراطية الظالمة الى الدولة المدنية الليبرالية القائمة على العقد الاجتماعي والمساءلة الدستورية وحقوق الانسان والمواطن. واستطاعت الولايات المتحدة في الربع الاخير من القرن التاسع عشر ان تطلق نهضتها الجبارة بعد حرب اهلية عنصرية مدمرة، فكان ايفاد بضعة آلاف من الطلبة الى اوروبا سبباً في توالي الاختراعات بتصاعد هندسي مذهل وصل بحلول عام 1920 الى حوالى 40 الف اختراع. وحتى نهاية القرن التاسع كان اليابانيون على هامش الحضارة الانسانية ولم يكن عدد اليابانيين الذين سافروا الى الخارج يتجاوز الثلاثمئة. اذ ذاك قرر اليابانيون ان ينهلوا من الحضارة الغربية، وتمكنوا ببعثات محدودة الى الغرب ان يؤسسوا مشروعهم النهضوي وان يمضوا فيه قدماً حتى بات الاقتصاد الياباني اليوم ثاني اقتصاد عالمي على رغم ضآلة موارد اليابان الطبيعية وكارثة الحرب النووية.

ولو تأملنا في الحالة الكورية لازداد اصرارنا على مقولتنا في ان الامم التي تنتج من داخلها اسباب تجددها ونهوضها هي الامم المؤهلة للتقدم والتجاوز والنماء. اذ بعد حرب ضروس قتل وفقد وجرح فيها قرابة مليونان ونصف مليون كوري، وشرد فيها ما يقرب من عشرة ملايين عائلة في بلد صغير نسبياً – 99268 كم2 – دمر عشرات الآلاف من مؤسساته الصناعية، ومئات الآلاف من منازله، والآلاف من مدارسه ومستشفياته وأحرق قرابة مليون هكتار من اراضيه الزراعية. بعد هذا كله وعلى رغم كل هذه المآسي عرفت كوريا كيف تستحث قوى التجدد والتجاوز والانبعاث في داخلها لتنطلق وتغدو في جنوبها على رغم موارد اولية محدودة بلداً صناعياً متطوراً يحتل المرتبة الثالثة عشرة على قائمة الدول الأكثر تقدماً، حيث وصل ناتجها المحلي عام 2010 الى 1.364 تريليون دولار، ووصل دخل الفرد الى 27978 دولار.

في المقابل على رغم كل ما يملكه العالم العربي من مميزات جغرافية وطاقات وموارد اقتصادية وبشرية – 10.2 في المئة من مساحة العالم، 5 في المئة من سكانه، 59.3 في المئة من احتياطي النفط العالمي، 30.5 في المئة من احتياطي الغاز – تقع غالبية الاقطار العربية في المستويات الدنيا من الناتج للفرد في العالم، ويبقى الدخل العربي الاجمالي مجتمعاً، من دون دخل دولة اوروبية متوسطة، اضافة الى اكثر من مئة مليون عربي فقير وامي، ونسبة بطالة تتجاوز الـ20 في المئة، وفيما المرأة العربية هي الاضأل مشاركة في الحياة الاقتصادية والسياسية على مستوى العالم.

وعلى رغم مما اوتي العالم العربي من فرص التقدم والنهوض، لم يضف العرب انجازات ذات شأن الى الحضارة الانسانية المعاصرة. فقد توافد آلاف الخبراء الاجانب الى العالم العربي قبل النهضتين الاميركية واليابانية بنحو نصف قرن، وارتفع عدد الجامعات العربية من 23 جامعة مطلع الستينات الى 240 جامعة حالياً تضم اكثر من 4 ملايين طالب و140 الف استاذ، اضافة الى اكثر من مئتي الف طالب يدرسون في الخارج.

على رغم هذا كله وعلى رغم بلايين الدولارات التي تصرف سنوياً على التعليم العالي، لا يتجاوز الانتاج العلمي العربي 40 في المئة من الانتاج العلمي الاسرائيلي. لكأن الحداثة في العالم العربي صورة من دون مضمون، مادة من دون قوة تحركها من الداخل، ولهذا السبب لم تتمكن من الانغراس في ذات الانسان العربي، فظلت حدثاً عرضياً، وليست مقوماً ذاتياً للثقافة العربية، على حد تعبير عبدالله العروي، الى هذا الاخفاق في تمثّل الحداثة واستيعابها نرجع الصعود الراهن للحركات الاصولية المتشددة بوصفه الصورة المأسوية لضمور او تراجع روح التجدد والتجاوز والانبعاث في الانسان العربي، ما آل الى خروجه من العصر والارتداد الى التاريخ. ها هنا في رأينا اصل الاشكال، والى هذا يجب ان يعزى السبب في يقظة الاصوليات، وليس الى انكسار المشاريع الحداثية، القومية والليبرالية والاشتراكية، فهذا الانكسار هو الآخر وجه من وجوه اخفاقنا التاريخي في التحدي والتجاوز، بيد ان تاريخية هذا الاخفاق تنفي ديمومته، فالتاريخ محكوم دائماً بمنطق التحول.

* كاتب لبناني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى