صفحات المستقبلمالك ونوس

في صورة الأم الحارسة/ مالك ونوس

 

 

وقع نظري، مرة أخرى، على صورة قديمة لأُمٍّ سورية تجلس كلبوةٍ حارسةٍ، بجانب بناتها النائمات، نهاراً، على رصيف، هو في الغالب، أحد أرصفة مدينة بيروت. تنظر الأم إلى البعيد، ربما تتوقع أن مهاجماً ما سيهاجمها، أو يهاجم بناتها، فتتهيأ للدفاع عنهن. وربما هي تجبرهن على النوم نهاراً، كي يبقين يقظاتٍ متوثباتٍ خلال الليل، مخافة هذا المهاجم. أو ربما تنتظر أملاً تأخر، ترقبه علَّه يُسرع في المجيء، أو أملاً فقدته وترجو عودته. وتختصر الصورة آلام هذه الأم، وآلام بناتها. كما تختصر آلام أمهاتٍ أخرياتٍ وقصصهن، وقصص السوريين الذين هجّرتهم الحرب من بيوتهم، فتشرّدوا في كل البقاع التي استطاعوا الوصول إليها، مشكّلين “أكبر أزمات التشرد في العصر الحديث”، حسب وصف وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، ستيفن أوبراين.

وتتكرّر الصورة في كل أرض يطؤها السوريون، في أماكن النزوح ضمن المناطق الآمنة، داخل سورية، وفي أماكن اللجوء، في لبنان ومخيم الزعتري في الأردن ومخيمات تركيا، إلى البحار ثم إلى مخيمات اللجوء في ألمانيا، وغيرها من الدول الأوروبية. الصورة نفسها، لكن الوجوه تختلف، ويختلف عدد الأطفال الذين تقوم الأمهات على حراستهم وهم نيام. “كوم لحم”، كما يقول إخوتنا المصريون. نعم إنهم كذلك، كوم لحمٍ، قد يصبحون، أو يصبحنَ، عرضةً لنهش المارّة، إن لم تكن الأم لبوةً تحرسهم في الطرقات، وتحرس نومهم على الأرصفة أو في “الكامب”. ولا شيء تنظر إليه الأم على الطريق، المارّة هم المارّة الذين يأتون والذين يذهبون. اليوم هو البارحة وهو غداً وهو كل يوم، فلا قادمَ ولا بَشير. لكن الأم تجلس على الرصيف، تحرس النوم في جفون فتياتها، وتنظر إلى الطريق. لكن الطريق إلى المرأة الحارسة صحراء، لا خيلَ فيها ولا جمل، يحمل إليها ما ترجوه.

منذ سنواتٍ خمس، لم تتوقف الإحصاءات عن تزويدنا بالأرقام المفزعة عن عدد اللاجئين، الذين هم في المحصلة مشرّدون. ففي أواخر 2015، قال أوبراين إن عدد السوريين الفارين من ديارهم بسبب النزاع تجاوز 13.5 مليون نسمة، أي أكثر من نصف سكان البلاد. وقال إن بينهم أكثر من ستة ملايين طفل. كما أضاف أن أكثر من 6.5 ملايين منهم نزحوا إلى المناطق والمدن الآمنة داخل البلاد، بينما هنالك حوالى 4.2 ملايين يعانون من مآسي اللجوء في الدول المجاورة. طبعاً، إضافة إلى وجود أكثر من مليون في الدول الأوروبية. ومن حينها، تؤكد الإحصاءات أن هذا العدد ازداد، مع المعارك والهجمات المستمرة في البلاد، وازدادت معه الصور وقصص أصحابها التي تنتظر أوبراين وغيره لكي يحصونها.

ويتوالى التعاطي مع قضية اللاجئين المشرّدين، وينقلب شكل هذا التعاطي بين حين وآخر، فهي مرة قضية هذا الطفل الغريق أو تلك الفتاة المشردة أو ذلك الأب اللاجئ وابنه، الذين لا يحفل بهم أحد إلا حين تتناقل الوكالات صورهم. ثم تصبح قضية شعبٍ كامل تتقطع به السبل. وتلقى هذه القضية البحث الدائم، والدراسة المتواصلة لدى المحافل الدولية التي تصوّر المأساة السورية، وتحصرها بقضية لاجئين فحسب، كما حصل مع قضية الشعب الفلسطيني. ويصر هذا المجتمع أن حلها يستدعي تسهيلَ لجوء هؤلاء المشردين، من خلال استقبالهم وتقاسمهم حصصاً بين الدول، وتسريع معاملات لجوئهم ودمجهم في المجتمعات التي باتوا يعيشون فيها، في حين يجري التغاضي عن مسبّبات تشردهم، وهو الموت الذي هربوا منه، والحرب والمجازر التي فشل الجميع في وضع حدٍّ لها.

ربما كان عجز الدول الغربية، والمجتمع الدولي عموماً، عن إيقاف الحرب في سورية، أحد دوافعه للالتفات نحو قضية اللاجئين لحلها، وَقْفاً لشعور تبكيت الضمير الذي قد يعتريهم جرّاء عجزهم ذاك. وقد نشط هذا المجتمع في هذا الصدد، لإظهار إيجابيته تجاه القضية السورية، بعد حملات التعاطف، التي أغرقه مواطنوه فيها، إثر مشاهد المجازر وصور الغرقى والمشرّدين والمحتجزين السوريين على حدود الدول.

الآن، ومع افتقار القضية السورية إلى الحلول، ومع فشل جميع المحاولات لوقف الحرب التي دخلت سنتها السادسة أكثر زخماً واتساعاً وتعقيداً، تبقى مأساة الشعب ماثلةً، تزداد آلامها كلما بَعُدَ الحل. وستتكّرر صور الأمهات الحارسات، اللواتي إن استطعن حراسة بناتهن وأبنائهن الآن، سيصلن إلى يوم يفقدن فيه تلك القدرة. فتبدأ مآسٍ جديدة، أكثر خطورة، بالتوالد من القديمة، تلامس أصحاب هذه القضية، ومن حَسِبَ نفسه أنه في منأى عن عواقبها.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى