صفحات الثقافة

في فخ كوليت/ عبده وازن

 

 

لا أصدّق حتى الآن أن الممثل زياد عيتاني عميل إسرائيلي. هذا الشاب الذي نشأ في كنف جده الفنان الكبير محمد شامل هل يمكنه فعلاً أن يكون عميلاً لإسرائيل؟ اعترف زياد للفور منذ أن بدأ التحقيق معه ولم ينكر التهمة ولم يسع إلى تضليل المحققين كما يفعل العملاء المتمرسون في حرفتهم. وهذا يعني أنه عميل ساذج وقع ضحية الفخ الذي نصبته له المجندة الإسرائيلية “كوليت” من غير أن يحسب حساباً لما تؤول إليه العمالة من عواقب وخيمة جداً. وكانت المزعومة “كوليت” محط تندر في الصحافة والإنترنت والفايسبوك وراح بعضهم يحوك حولها حكايات، ونشرت لها إحدى الصحف اللبنانية صورة في ما ظنته “سبقاً” صحافياً فإذا الصورة هي لممثلة إسرائيلية معروفة.

طبعاً وجد صحافيون وإعلاميون كثر في قضية عمالة زياد مادة للتعليق والتخمين والافتراض واللغو، ورسموا سيناريوات وكواليس واختلقوا وقائع وحبائل. هذه فرصة مؤاتية لمثل هذا الهذر الإعلامي. لكنّ أمر زياد هو أخطر من أن يكون مادة تندر وتوهّم. ممثل موهوب، سليل عائلة بيروتية عريقة، ورث المهنة عن أسرة ذات باع في الفن الشعبي… يصبح بين ليل ونهار عميلاً خطراً، ينفّذ خطة رسمت له. كاد زياد يحتل قلوب الجمهور الذي شاهد أعماله الأخيرة التي كتبها وأخرجها الشاعر والمسرحي يحيى جابر. كل من شاهده أحبه وأعجب بخفة ظله وحذاقته في تجسيد الشخصيات التي ألقاها جابر على عاتقه. وبدا زياد الممثل الموهوب، بارعاً جداً في أداء شخصية المواطن البيروتي في مسرحيات جابر الثلاث (بيروت الطريق الجديدة، بيروت فوق الشجرة، بيروت بيت بيوت)، وبدأ يشق طريقه بوضوح نحو الاحتراف العالي. وكان مشروع التعاون بين الممثل والكاتب– المخرج، سيتواصل ليؤدي ربما إلى تأسيس مسرح يومي يذكر بما أنجزه الفنان الشعبي الكبير شوشو (حسن علاء الدين) قريب زياد. لكنّ الواقعة سرعان ما وقعت. وأول رد فعل سلبي صدر عن يحيى جابر نفسه، سارع إلى التبرؤ من ممثله سياسياً طبعاً، عبر الفايسبوك وبدا مصدوماً جداً، هو الجنوبي المعروف بيساريته سابقاً عندما كان في لبنان يسار حقيقي، وبنضاله ضد إسرائيل. ومثله صُدم أصدقاء زياد ورفاقه وجمهوره. استطاع زياد أن “يمرر” لعبته عليهم، بحذاقة وخبث، فلم يدعهم يشكون به ولو للحظة. لم يترك لهم قبساً من ريبة. غشّهم بحنكة هي قرين البراءة التي يشي بها وجهه ونظراته.

الصدمة التي أحدثها زياد عيتاني في أصدقائه وجمهوره (تخطى الخمسة والثلاثين ألفاً)، لا تقتصر على كونه فناناً ينقلب عميلاً، فالفنانون مثلهم مثل الآخرين عرضة للإغراءات وأفخاخها، ولا على اللعبة التي مارسها على جميع من حوله… إنها الخيانة في كل ما تعني من تجديف على الذات أولاً وأخيراً. ليست الخيانة هنا خيانة للوطن فقط، ولبنان أصلاً حافل بالخيانات والخونة في كل المعاني وكل المراتب، وليست خيانة للجماعة وللقيم والمبادئ التي نشأ عليها زياد نفسه، ولا للفن والمسرح والجمهور، إنها الخيانة بصفتها ضرباً عبثياً أو عدمياً. قد يصعب علينا أن نصدّق أن الخدمة الاستخباراتية التي طلب من زياد أن يؤديها للعدو يتراوح “ثمنها” المالي بين خمسمئة وألف دولار شهرياً. أي عميل يرضى بتعريض نفسه لأخطر العواقب مقابل هذا المبلغ الزهيد؟ حتماً في الأمر ما هو أبعد من إغراء مالي.

إنها كوليت، المجندة الإسرائيلية الاستخباراتية التي عرفت كيف تستدرج زياد إلى فخها. كوليت ليس اسمها طبعاً. لا أسماء حقيقية للجواسيس، ولا وجوه لهم. إنها كوليت المرأة “الفاتنة” كما قيل، انسلت إليه عبر شبكات التواصل الإعلامي. بقيّة القصة باتت معروفة وما تسرب في الصحف من تفاصيل التحقيق يكفي لكتابة فصل قصصي كامل. وأحد الصحافيين جعل من قضية زياد شغله الشاغل، بحثاً عن الفضيحة لا حباً بزياد. عندما تقع تهمة العمالة على شخص يصبح للفور منبوذاً. حتى أهله يتبرأون منه. ولم تخل الفضيحة هنا من فضيحة أخرى هي الإغراء الجنسي. هذا الإغراء، يقال إن الإسرائيليين يعتمدونه لتحقيق مآربهم، فيجندون النساء ليؤدين دورهن خدمة للأمة الإسرائيلية. هل قطف زياد حصته من هذا الإغراء ما دام خسر مالياً؟

لم أكن أظن أن زياد عيتاني يمكنه أن يكون ساذجاً إلى هذه الدرجة. ساذج وأبله وبريء. لم يفكر بما ستؤول إليه هذه العمالة الرخيصة. لم يفكر بزوجته وطفلته. لم يتخيل أنه سيدخل السجن ويزج في زنزانة، وأنه سيُجرد من حقوقه كمواطن. زياد عيتاني ضحية، بل أكثر من ضحية: ضحية العمالة وضحية سذاجته التي أوقعته بسهولة في فخ كوليت.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى