محمد تركي الربيعومراجعات كتب

في قراءة للأنثروبولوجي الأمريكي «سكوت أتران» للقيم المقدسة… رياضة الدم: الحرب والرجولة والجهاد في العالم الإسلامي/ محمد تركي الربيعو

 

يعد اليوم الأنثربولوجي الأمريكي سكوت اتران، مدير الأبحاث الأنثربولوجية في المركز الوطني للبحث العلمي في باريس، إلى جانب بعض العلماء المهمين من أمثال الفرنسي أوليفي روا، من أهم العاملين في الأبحاث الميدانية حول قضايا الإرهاب والعنف والدين في العالم الإسلامي.

وقد صدر له في هذا السياق عدد من الكتب المهمة مثل: كتاب «الثقة في الآلهة» (2002)، وآخر بعنوان «باسم الرب» (2009)، كما حظي كتابه الأخير «الحديث إلى العدو: الدين والأخوة وصناعة الإرهابيين وتفكيكهم» الصادر بالإنكليزية عام (2010) بأهمية كبيرة في الأوساط الأكاديمية والمؤسسات السياسية الدولية مثل، منظمة الأمم المتحدة. ما دعا دار جداول للنشر والتوزيع إلى ترجمته مؤخرا، ترجمة طاهر لباسي(2016)، حيث يرى أتران في كتابه هذا أن معظم الشباب الذين يلتحقون بالحركات الجهادية اليوم لا يرتكبون ذلك لأنهم منتقمون بشكل استثنائي، غير مكترثين وفقراء، غير متعلمين ومذلولين، تم غسل أدمغتهم، ذوو عقول تميل إلى الإجرام، انتحاريون، أو متعطشون لممارسة الجنس مع العذارى في السماء، بل هم يموتون ببساطة من أجل قضية ومن أجل الإخلاص «لعائلاتهم المتخيلة» التي ينتمون لها، كما أن هؤلاء الجهاديين يحاربون باعتمادهم على أكثر أشكال التعاون الإنساني بدائية وأولية، أصدقاء المعسكر، أو أصدقاء المدرسة، ورفاق رياضة كرة القدم وزملاء العمل الذين يتشاركون قضية. كما أنهم يموتون من أجل حلم الجهاد، جهاد العدالة والمجد، خاصة في ظل التهميش والسياسات الغربية الخاطئة تجاه العالم الإسلامي.

الظاهرة الأزمة

فأتران يعتقد أنه لا يمكن اختصار السلوك البشري على أنه سلوك محكوم بالحسابات العقلانية فحسب، ففي المواجهات بين الدول، خاصة في الحرب الباردة كانت هذه النماذج فعالة في بلورة سياسات حالت دون نشوب حرب نووية. أما الآن فنشهد ظهور «الفاعلين المتفانين» مثل الجهاديين المستعدين للقيام بالتضحيات الجسيمة التي تستخدم الملاءمة والهوية عوضا عن منطق النتائج.

ومن هنا، فان أزمتنا اليوم تكمن في تلك الرؤية التي تعتقد أن أي فهم لظاهرة الجهاديين اليوم يجب أن يحكمه العقل، ولا ينبغي لهذه الاختيارات «اللاعقلانية» أن توجد بالأساس. وأن الخيار الواقع الأوحد هو الرجوع إلى الجوانب المادية للمقاربة على الطريقة التجارية (كما تتم مقاربته اليوم مثلا حيال الجماعات الجهادية المحلية في سوريا)، وترك «المسائل القيمية» كآخر شيء يمكن الخوض فيه. انطلاقا من أن التحركات الواقعية على مستوى المسائل المادية (زراعة، مياه، كهرباء…) ستراكم في النهاية قوة كافية لتبديد المسائل القيمية الأكثر تشددا ورسوخا. ولكن في الحقيقة أن هذه وصفة لحرب أخرى على شاكلة «حرب المئة سنة»، بما أن التطور في المسائل المادية اليومية لا يمكنه إلا أن يزيد من تشبثنا بالقضايا العويصة المشحونة بالقيم التي تبحث في من نحن.

ولذلك يسخر أتران من السياسات والمبادئ المعيارية المسلم بها لدى الدبلوماسيين والعسكريين الأمريكيين، التي تعتمد على منطق التكاليف والأرباح، واعتبار ما يسمى بالقيم المقدسة قيما «شبه قدسية»، حيث أنه في عالم تقل فيه الموارد هناك دائما مجال للمقايضة. كما أن ما يثير حفيظته كذلك هي السياسات الأوروبية التي أخذت تشرع في دعم برامج ميدانية ذات بعد ثقافي وموجهة إلى الشباب المسلم، عبر تنشئة ائمة معتدلين، كون الدراسات الاجتماعية قد بينت أن القلة القليلة من الشباب تصبح ميولها إرهابية عند ارتياد المساجد، فهم قلما يجتمعون ويخططون داخلها كما فعل مثلا إرهابيو هامبروغ، ومفجرو القطارات في مدريد، إذ أن اغلب هجماتهم يتم التخطيط لها في المطاعم، أو في محلات الحلاقة، أو عند ممارستهم للرياضة، أو عندما يكونون في ضيافة أحد الرفاق.

ومن هنا يقترح أتران التعامل مع المنطق اللاعقلاني للجهاديين برؤية إيجابية، بدل أن نحاول هباء إبادته من خلال عدم تعقله كما يفعل اليوم العديد من الباحثين الغربيين، الذين حاولوا تفسير الظاهرة الجهادية الإسلامية.

طبيعة الدين

ففي كتابه الأكثر رواجا «نهاية الإيمان: الدين والإرهاب ومستقبل العقل»، تحدث سام هاريس – وهو خريج العلوم العصبية- بكل صراحة ومن دون مواربة عن عدم مراعاته للحساسيات الدينية الغضة للآخرين، حيث يرثي في كتابه السابق الطبيعة الهدامة للدين، ويناشد الناس الذين يمتلكون القليل من الحكمة أن يقاتلوا ضده. وبالروح والجرأة نفسيهما التي اتسمت بها كتب مثل «إبطال مفعول السحر» للفيلسوف دا دينيت و«الإله ليس كبيرا» للكاتب في مجلة «فانيتي فير» كريستوفر هيتشنز والكتاب الذائع الصيت «وهم الاإه» لريتشادر دوكينز، يرى هاريس أن التسامح الكوني والاعتدال العلماني تجاه الدين لا يؤدي إلا إلى تكاثر المتطرفين وتنامي المعتقدات الغربية والعدوانية التي تتسبب في تداعيات همجية تتهدد العالم. ومن هنا كان الدرس الذي استخلصه من وضعه لهذه الفكرة جنبا إلى جنب مع الهجمات الانتحارية للحادي عشر من أيلول/سبتمبر أنه «لا يمكننا بعد الآن تجاهل أن المليارات من جيراننا يؤمنون بميتافيزيقا الاستشهاد، وأنهم مدججون بأسلحة كيميائية وبيولوجية ونووية، نحن في حرب مع الإسلام».

وردا على هذه المقاربة، يرى أتران أنه ليس كل الانتحاريين إسلاميين أو أشخاصا يحركهم الدافع الديني. ففي الواقع وحتى عام 2001 كانت أكثر المجموعات التي قامت بتفجيرات انتحارية هي نمور التاميل في سيريلانكا، ومن المعروف أنها حركة تحرير علمانية قومية ينتمي مناصروها مذهبيا إلى الهندوس. وفي الشرق الأوسط وقبل عام 2001 وقعت أكثر التفجيرات الانتحارية في لبنان، ونصفها قام بها قوميون علمانيون.

أما بالنسبة إلى الإحساس بالفخر الشديد الذي دائما ما يفوق (حسب رأي هؤلاء الكتاب) الحب الأبوي، فإن أتران يشكك بهذا الكلام بقوله «التقيت آباء وأمهات أكدوا لي أنهم كانوا سيفعلون أي شيء بمقدورهم لثني أبنائهم عن القيام بمثل هذه الهجمات الانتحارية، ثم أنه ما الذي تريدونهم أن يجيبوا به عند سماع خبر «انتحار» ابنائهم؟ إنه كان فعلا أخرق لا معنى له؟ إن هذا يتنافى مع النزعة الفطرية للناس الذين يميلون دائما إلى إضفاء معنى ما عندما يفطر فؤادهم فقدان أحد الأحبة».

أما بشأن الدعوة التي وجهت للعلوم والعلماء لمحاربة الدين للحد من العنف وإحلال السعادة في هذا العالم، فإن أتران لا يعتقد أنه بإقصاء الدين ستتمكن العلوم من الحد من العنف، وتوفير السعادة للجميع، كما أنه لا وجود لدليل واحد على أن تدريس العلوم يحد من الإرهاب. وفي هذا السياق فهو يشير إلى دراسة كل من عالم الاجتماع في جامعة أوكسفورد دياغو غامبيتا والمختص المثير للجدل في علم النفس مارك سايجمان، التي اظهرت أن أغلب المنتمين إلى «القاعدة» ومعاونيهم تلقوا تعليما جامعيا، وأن دراستهم الجامعية كانت تعتمد أساسا على تدريس العلوم، وأن مهنة المهندس والطبيب كانت أكثر المهن تمثيلية بين أعضاء «القاعدة». كما أنه في الواقع لم يرتد أحد من الانتحاريين التسعة عشر في هجمات الحادي عشر من سبتمبر أو المتآمرين في تفجيرات مدريد، أي مدرسة دينية، خاصة أن المجموعات الجهادية نادرا ما تستقي الانتحاريين من هؤلاء الطلبة لأنه تعوزهم المهارات الاجتماعية واللغوية والتقنية الضرورية للقيام بمهام على أرض العدو.

الجهاد والقومية

وبناء على ذلك، يعتقد الكاتب أن ثقافة الجهاد العابرة للقوميات لم تعد اليوم مرتبطة بالقرآن أو بالحنين إلى زمن السلف الصالح وإحياء الخلافة من جديد، بقدر ما هي ثقافة شبابية عالمية. ذلك أن أغلب الشباب الذين ينضمون إلى الجهاد اليوم كانوا قد تلقوا تعليما معتدلا يتسم بالعلمانية، بدلا من تعليم ديني متطرف. كما أنه عادة ما ينبذ الشباب في المجتمع الحديث ما يتلقونه من علم ومعرفة ولا يتشبثون بما يقوله لهم المربون «المعتدلون» والأكبر سنا. فالشباب عادة ما يفضلون الحركة والأفعال بدلا من مجرد الإصغاء إلى الكلمات، والتحديث عوضا عن الجمود. بالإضافة لذلك فإنه من النادر اليوم أن يذكر الشباب «رجال السياسة» على أنهم ابطال. ففي اوروبا مثلا نجد أن الأسماء الوحيدة التي يتكرر ذكرها هي المحارب تشي غيفارا، ورجل السلام نيلسون مانديلا. ولعل ظروفهم هذه هي ما يجعل من العمل الجهادي اليوم (بالنسبة لهم) عملا رائعا فيه الكثير من الحركة، كونه يدعو إلى الأخوة والإثارة، ويكفل لهم الاحترام الأبدي والبقاء في ذاكرة العالم بأسره، ولذلك يغدو الجهاد اليوم (وفقا لأتران) بمثابة عمل فريق ورياضة جماعية دموية لمجموعة من الشباب الغاضب والباحث عن المجد.

وفي نهاية دراسته، يرى الكاتب أن مواجهة هؤلاء الجهاديين تتطلب منا منحهم صورا جديدة عن أبطال يعبرون عن آمالهم وطموحاتهم، بدلا من أن نفعل ذلك بواسطة الرصاص والقنابل. وأن نعمل أيضا على التقليل من عوالم الإثارة التي تخلفها عمليات القتل والتفجير والحد من إذاعة صيتها. ذلك أنه على الرغم من المسؤولية المباشرة للجهاديين عن عمليات العنف التي يقومون بها ولكنهم مع ذلك لا يتحملون المسؤولية المباشرة عن ردة الفعل التي تنتجها هذه العمليات في الصحافة والدعاية والإعلام، الذين باتوا ومن خلال التغطية المبالغ بها يوفرون الأكسجين الذي يتنفسه الجهاديون اليوم، لأن تضخيم عملياتهم وإقامة العلاقة بين عمليات متقطعة نسبيا (مثل ربط أي حدث في المنطقة مثلا بـ«داعش») واعتبارها «حربا شاملة»، قد جعل من ظاهرة هؤلاء الشبان الشغل الشاغل للبلاد والعباد، بدلا من أن تكون هامشية، وربما هذا التحول في الاهتمام يظهر زيف العبارة المتكررة في خطابات القادة الغربيين من أن «الإرهابيين لن يغنموا شيئا».

باحث سوري

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى