مراجعات كتب

في كتاب شمل مقابلات معه أجريت في السنوات الأربع الماضية: نعوم تشومسكي: ترامب يعتمد خطط رجال الأعمال في خياراته السياسية/ سمير ناصيف

 

 

سيبلغ المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي التسعين من عمره في نهاية هذا العام، ولكن نظرياته الثاقبة ومواقفه الثابتة إزاء الأزمات الخطيرة في العالم ما زالت تتدفق بغزارة في كتب ومقالات ومقابلات قد تكون مفيدة لمنع حرب عالمية ثالثة مدمرة للبشرية.

وقد وردت بعض هذه الأفكار في كتاب صدر مؤخراً بعنوان: «استياءات حول شؤون عالمية: حوارات مع نعوم تشومسكي عن الأخطار التي تهدد الديمقراطية في مشروع الإمبراطورية الأمريكية» أجراها الإعلامي ديفيد بارساميان معه على مدى أربع سنوات (من حزيران/يونيو 2013 إلى الشهر نفسه في عام 2017). وبارساميان هو مدير إذاعة «الراديو البديل» الأمريكية. وشمل الكتاب في فصله الأخير تقييم تشومسكي لشخصية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

واعتبر تشومسكي في هذه المقابلة أن مسؤولية بعض الأخطاء التي ارتكبها ترامب في سياساته بالنسبة إلى الشرق الأوسط تعود بشكل رئيسي إلى تأثير مجموعة محددة في الحزب الجمهوري الأمريكي عليه، وهذه المجموعة التي تتشكل من فئة يتصاعد دورها في هذا الحزب تدفعه لاتخاذ مواقف حادة وفي بعض الأحيان متسرعة في هذا الشأن، بينما ترامب الحقيقي، قد لا يكون مقتنعاً بهذه السياسات والمواقف بل انه على الأرجح يؤمن بالمبدأ القائل: «اعطني ما أريد لكي أفعل شيئا من أجلك» وهو مبدأ رجل الأعمال الذي يسعى للتوصل إلى الصفقة التي تلائمه من منطلق مصالحه.

وشعار ترامب الرئيسي الذي ساهم في إيصاله إلى الرئاسة، حسب إحدى المقابلات هو: «سأجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى» بالإضافة إلى وعوده بتوفير الوظائف وتعزيز الصناعات الأمريكية التي أثر تقلصها سلباً على سكان المناطق الريفية وعلى ازدياد العدد الكبير من العاطلين عن العمل.

وخطأ الحزب الديمقراطي الأمريكي، في رأي تشومسكي، أنه لم يدعم المرشح الليبرالي الميول بيرني ساندرز منذ البداية والذي كان في امكانه استقطاب الشباب والأجيال الطالعة والمهمشين إلى درجة أكبر من المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون التي رآها هؤلاء مرشحة من جانب أركان النظام الذي أدى إلى تهميشهم بالإضافة إلى زيادة معاناة الفقراء والعاطلين عن العمل في ظل قيادات الحزبين.

الجديد في مواقف تشومسكي في هذا الكتاب كونه يفرق بين المواقف الأيديولوجية المتطرفة للمحافظين الجدد والمتصهينين الانجيليين الأمريكيين، من جهة، وبين دونالد ترامب نفسه الذي يندفع أكثر حالياً للاعتماد عليهم في اقصاءاته لأعوانه وتعييناته الجديدة.

وبالتالي، فصداقات ترامب وتحالفاته في الشرق الأوسط قد تفسران على غير حقيقتهما، فدوافعهما ليست أيديولوجية، كما قد تكون دوافع المحيطين به في هذه المرحلة. وفي المدى البعيد قد لا تخدم الجهات التي تعتقد انها تديره، إذ يبدل مواقفه ويغير تحالفاته أذا رأى انها «لا تعطيه ما يريد» وأنها قد تقلص نفوذه وتضعفه.

فعندما يسأل بارساميان تشومسكي في الصفحة (179): «هل تعتقد ان ترامب يعتمد وينفذ خطة سياسية دولية اقتصادية مترابطة ومنسجمة؟ يجيب تشومسكي: «ان سياسات هذه المجموعة الضيقة التي تحيط بترامب يتزايد نفوذها وهي تضر بالمصلحة العامة للشعب الأمريكي وبمصالح الأجيال القادمة. ليس من الواضح إذا كان ترامب يدرك حاليا الأخطاء التي ترتكبها هذه المجموعة المتطرفة في الحزب الجمهوري، ولكن أيديولوجية ترامب الأساسية مرتبطة بشخصيته كفرد وكرئيس».

وعما إذا كان ترامب يخدم لوبيات أمريكية كلوبي صناعة الأسلحة أو لوبي النفط والغاز أو لوبيات أيديولوجية أو عنصرية أخرى عبر اعتماد سياسات تحطيم ما بناه قبله الرئيس السابق باراك أوباما من العلاقات، يجيب تشومسكي: «ربما هذه عوامل مؤثرة، ولكن تصرفاته لا تختلف عن تصرفات قادة عالميين تقليديين في بعض الدول القوية في الماضي رغبوا في توسيع سلطاتهم عن طريق القوة العسكرية لأمريكا وبريطانيا وفرنسا في وقت يتحدثون فيه باستمرار عن الديمقراطية والدبلوماسية».

وشجب تشومسكي في أجوبته اللجوء إلى القصف العسكري للأبرياء وقتلهم من أجل تحقيق الأهداف السياسية، والذي تعتمده جهات مختلفة معتبراً انه لا يحقق أهدافه. كما انتقد تحول الهند من دولة قيادية في دول عدم الانحياز بقيادة الزعيم الهندي الراحل جواهر لال نهرو إلى دولة تميل حالياً نحو تعزيز التسلح والانفتاح على إسرائيل.

كما انتقد هيمنة المال على الانتخابات الرئاسية والتشريعية في أمريكا خصوصاً والعالم عموماً، قائلاً انه ما ان تخرج الولايات المتحدة من انتخابات رئاسية أو تشريعية حتى تنتقل إلى انتخابات أخرى يحتاج المرشحون خلالها إلى الدعم الذي توفر لهم اللوبيات وفي بعض الأحيان لأموال الدول الخارجية. وهذا الأمر يؤثر على صدقية مواقف المرشحين عموما بالنسبة للقضايا الداخلية والدولية.

وفي مقابلة مع المؤلف جرت منذ سنتين ووردت في الكتاب يقول: «لا أظن ان في الإمكان التخلص من المنظمات الجهادية المتطرفة في العالم العربي والعالم عموما عن طريق قصفها عسكرياً فقط. فهناك جهات تعتبر هذه المنظمات عاملاً لحمايتها كمجموعة طائفية وإذا أُزيلت عسكرياً فقط فستنشأ مجموعات مسلحة على شاكلتها في المستقبل. وهذا الأمر انطبق على قيادات عربية أُزيلت بالقوة العسكرية والغزو وحدهما كما حدث في العراق وليبيا في السنوات الماضية من دون التخطيط لما سيحدث بعد إزالتها ما أدى إلى انتشار الفوضى والانقسامات والهجرة والمآسي الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية». ورأى ان هذا ينطبق على أزمات أخرى في المنطقة تتفاقم حاليا أو قد تنشأ في المستقبل.

وانتقد تشومسكي بشدة دعم أمريكا للتسلح النووي في إسرائيل والهند وباكستان، وهي دول غير منتسبة إلى اتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية، بينما النظام الأمريكي الحالي قد يُقرر الانسحاب من الاتفاقية النووية بين الدول الأوروبية وأمريكا مع إيران التي وُقعت في عهد الرئيس الأمريكي أوباما.

كما اعتبر في أجوبته أن سياسات التقشف الاقتصادي التي تعتمدها بعض الدول الأوروبية الغنية تؤدي إلى نتائج سلبية إذ تُشجع على نشوء أحزاب يمينية متطرفة. من جهة، وتزيد بؤس وتهميش الفقراء، من جهة أخرى، عن طريق تقليص الخدمات الاجتماعية والصحية التي تُقدم لهم وتدفعهم إلى التصويت لشخصيات «ديماغوجية» تقدم إليهم الوعود ولا تنفذها أو الانتساب إلى منظمات مسلحة عنيفة.

وعبّر عن تحفظه إزاء سياسة تحميل دول لا تستطيع تحمل المزيد من الهجرة بسبب الحروب، الكثير من المسؤوليات التي قد تؤدي إلى انهيار اقتصادها وتركيبتها الاجتماعية. وذكر لبنان والأردن وتركيا (في قضية الهجرة السورية) كمثال على ذلك، حيث تتخلص الدول الأوروبية من مشكلتها ثم تلقيها على عاتق دول أخرى وتدّعي أنها ستساعدها عبر المنظمات الدولية.

وأشار في هذا المجال إلى السلبيات التي ارتكبت وترتكب بحق اللاجئين الفلسطينيين في لبنان ودول المنطقة عموماً.

وانتقد بشدة في مقابلته الأخيرة (في صيف العام الماضي) المفهوم الذي تعتمده أمريكا والدول الأوروبية في تعريف الدول التي تدعم الإرهاب والمنظمات الإرهابية ومعاييره الخاطئة، فبدلا من اعتبار ما فعلته إسرائيل في الأراضي المحتلة (وفي غزة خصوصاً) وفي لبنان في السنوات الماضية إرهاباً من جانب دولة ضد شعوب ودول أخرى نرى هذه الدول الأوروبية والغربية وقادتها تصنف «حماس» وأخواتها من المنظمات المقاومة كمنظمات إرهابية وتهدد الدول الإقليمية التي تدعمها بالعقوبات وتعتمد السياسات المؤذية لها بحجة أنها لا تقدم الدعم الكافي لمكافحة «الإرهاب».

وبالتالي، أصبحت الجريمة الإرهابية الأساسية في نظر بعض الدول الغربية هي مقاومة السياسات الإسرائيلية القمعية والتوسعية، حسب تشومسكي وأصبح بعض هؤلاء القادة في الغرب يعتبرون ان إجراء انتخابات حرة في فلسطين تؤدي إلى نجاح خصوم إسرائيل «جريمة» المطلوب معاقبتها.

ورأى في المقابلة الأخيرة، ان هذه المواقف المنحازة ضد خصوم ومقاومي إسرائيل لا تقتصر على نظام ترامب في أمريكا بل تواجدت في الأنظمة الأمريكية السابقة ولكنها تطورت بشكل لافت في سياسات ترامب بسبب خصوصيات شخصيته ومواقفه المختلفة علناً عن أسلافه.

ويشمل الكتاب أموراً كثيرة أخرى عن تشومسكي وخلفياته العائلية والشخصية وأسباب اهتمامه بالقضايا الإنسانية إلى جانب عمله في حقل العلوم واللغويات في جامعة «MIT» الأمريكية المنتج عملياً وقدرته على النتاج الفكري السياسي في الوقت عينه.

ولعل من أهم ما في نقده لسياسات ترامب عموماً وفي الشرق الأوسط خصوصاً انه يتجنب استخدام المبادئ والقيم الإنسانية في نقده لتبرير وجود وبقاء قيادات الأنظمة القمعية في المنطقة وممارساتها ضد شعوبها. فإذا اعتبر ان ترامب أخطأ في مواقفه ضد نظام ما فان ذلك لا يقوده إلى تبرير سياسات ذلك النظام وضرورة استمراره في التنكيل بشعبه، بل يقف دائما إلى جانب الشعوب المسحوقة التي تعاني من بطش قادتها وتتحرك للمطالبة بحقوقها. وهنا تكمن إنسانيته الحقيقية.

ويُذكر ان ديفيد بارساميان كتب عشرة كتب عن نعوم تشومسكي، كما كتب أيضا عن أدوارد سعيد وطارق علي وهوارد زنّ وريتشارد وولف، وهو من مناصري القضية الفلسطينية والقضايا الإنسانية العادلة.

David Barsamian: Global Discontents:

Conversations on the Rising Threat to Democracy with Noam Chomsky.

Metropolitan Books, New York 2017

227

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى