صفحات سوريةعمر قدور

في لا جدوى التفوّق الأخلاقي وضرورته

 

عمر قدور

 يكاد لا يمرّ يوم من دون جدل حول مآلات الثورة بين الناشطين السوريين على صفحات التواصل الاجتماعي، جدل يعود جزء منه إلى تباين الأهواء السياسية للمعارضين، ويأخذ جزء معتبر منه طابعاً أخلاقياً، سواء أكانت المسألة الأخلاقية ذريعة لتوجهات سياسية أم كانت سمة أصيلة. في الحالتين لا ينفك الجدل الأخلاقي عن البروز لأن ثمة اتفاقاً مبدئياً على أن البعد الأخلاقي للثورة هو ما يؤسس لعدالة قضيتها، ومن ثم للمستقبل الذي تَعِد به. فالثورة، حين كانت مستضعفة وعزلاء، مضت أولاً وانتشرت بالزخم الأخلاقي العارم إزاء سلطة لا تملك الحد الأدنى منه. يومها لم يكن للمتظاهرين تمثيلهم السياسي، ولا ذراعهم العسكرية، ولا حتى رؤاهم المختلفة حول المستقبل؛ كان التفوقُ الأخلاقي القوةَ الوحيدة التي جرّدت النظام من شرعيته.

لا بدّ من التنويه أيضاً بأن التفوق الأخلاقي الساحق غطّى على التباينات المتوقعة في مجتمع الثورة، تلك التباينات التي هي ملح السياسة وخبزها. وحيثما كانت هناك مساحة أوسع للطهرانية الثورية لم تكن هناك مساحة للاختلاف. بل سرت بين الجموع غنائية مشتركة، وصار الآخر فقط هو الآخر الذي في الضفة المقابلة، إذ من المعلوم أن الطهرانية تلغي وجود الآخر فيها. الثورة عموماً هي بديل السياسة المفقودة، وطهرانيتها هي البديل عن التردي المتفاقم في النظام؛ هذا قبل أن تتهيأ لتصبح بديلاً فعلياً عن الأخير. ولكن من المحتم، مع دخولها الاضطراري إلى حقل السياسة، أن تفقد الثورة قدراً من طهرانيتها إذ يستحيل أن تقترن الأخيرة بالممارسة السياسية التي قلما توصف بالأخلاقية.

في البداية توسّل السوريون حماية المجتمع الدولي فخذلهم. هذا الشعور بالخذلان يخصّ السوريين فحسب، أما من جهة القوى الدولية فلم يكن الأمر للحظة يتعلق بعدالة القضية، بل وضّح العديد من قادة الدول أن الأمر يتعلق أساساً بالحسابات السياسية، ولم يحن بعدُ الوقت ليتدخل هؤلاء تحت زعم الأخلاق. في الواقع تعلق بعض السوريين بأمل الخلاص بأقل التكاليف، ومن دون المرور بتحالفات قذرة أحياناً من أجل انتصار الثورة، مع أنه ليس منطقياً أبداً أن يتنطّع أحد للدور الذي كان السوريون يتجنبونه، أي مواجهة وحشية النظام بعنف مقابل. من هذه النقطة، ومع بدء عسكرة الثورة، سينفتح السؤال والإختلاف حول التفوق الأخلاقي لها، فالثورة ستغادر طهرانيتها مع أول طلقة من ذراعها العسكري، ولن تبقى لها تلك الميزة الأخلاقية المطلقة.

بقدر ما تكسب الثورة ميدانياً تبدو معرضة للخسارة على صعيد النقاء القيمي، فلحظة تحولها الاضطراري من ثورة بيضاء إلى ثورة حمراء تقضي بالانصياع لأحكام الحرب، بخاصة بعد الاختبار المرير لعدم جدوى التفوق الأخلاقي بمفرده. هذا بالتأكيد سينقل العامل الأخلاقي في نظر البعض من المطلق إلى النسبي، فلا تعود الثورة تستقي ميزتها التفاضلية من المُثُل التي تنادي بها، بل تستقيها من المقارنة مع النظام الذي يُفترض أصلاً أنها نقيضه التام. ثم إن دخول الثورة إلى بعض المناطق المحررة وتحولها إلى سلطة مؤقتة لا بدّ أن يحط من رومانسيتها في أحسن الأحوال، وليس مستبعداً أن يقلل من أخلاقيتها في أحوال أخرى.

المفارقة القائمة هي في أن الثورة لم ولن تستطيع المراهنة على العامل الأخلاقي، لكنها بقدر ما تبتعد عنه تكسب على الأرض، وتغامر بخسارة جزء من مصداقيتها الكلية. حلُّ هذا التناقض سيكون عسيراً دائماً، ليس فقط لأن الواقع يسير وفق قوانينه الموضوعية، وإنما لأن من العسير نظرياً أيضاً الانحياز التام إلى طهرانية الثورة، وبالتالي التضحية عملياً بها، ومن المؤكد أن الكثيرين سيعزّ عليهم التضحية بجزء من أخلاقيتها لأن هذا يخدش تطلعاتهم إزاء المستقبل.

هذه الحيرة ستدفع بالكثيرين إلى إبداء مواقف متناقضة، أو تفتقر إلى الانسجام على طول الخط، وستؤدي أحياناً إلى الخلط بين نقد الثورة والتهجم عليها من خارجها، فضلاً عن تسييس ردود الأفعال تزامناً مع تعدد المستويات السياسية لها. قد نستثني من ذلك العوامل الكيدية لأنها أساساً تُبنى على مواقف واصطفافات تسبق الأسئلة المستجدة؛ بخلاف ذلك من يغامر بالقول إن الثورة لا تزرع الحيرة والشك، وحتى التردد أحياناً، مقابل القليل القليل من الأجوبة؟

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى