صفحات العالم

في لحظة العماء وانعدام اليقين

موسى برهومة *

ما لا يود أن يفهمه الكثيرون من أنصار نظام بشار الأسد ومناوئيه أن الغارات الإسرائيلية على مخازن الأسلحة والمواقع العسكرية في سورية لم تخرج، وحسب، عن نطاق حماية المصالح الإسرائيلية، رغم ما سببته هذه الغارات من حرج للمعارضة وفرح للأنصار والمبايعين! الغارات ذاتها خلطت ليس فقط الأوراق، بل المشاعر أيضاً، حتى ليصح قول الشاعر:

ومن نكد الدنيا على الحرّ أن يرى

عدواً له ما من صداقته بدُّ

فالناس، وبخاصة من هم في مرمى جحيم النظام السوري، فرحت بالغارات الإسرائيلية، لا لأنها تحب إسرائيل أو لا تنظر إليها كعدو تاريخي، بل لأن «جهة» ما أوجعت نظام الأسد، ودمرت أسلحة كان يود استخدامها ضد البشر الآمنين والعزّل، كما أن الغارات ذاتها أثبتت عقم القدرة العسكرية للنظام الذي لم تلتقط راداراته الطائرات الإسرائيلية المغيرة، فضلاً عن أنها أوقعت النظام في «حرج» الاحتفاظ بحق الرد، وهو أمر تحوّل إلى نكتة، لأن «حق الرد» على احتلال الجولان قبل أكثر من أربعين عاماً لم يحن أوانه، أو لم تتسن الفرصة المناسبة له بعد! وما يزيد في التباس النظر إلى الغارات الإسرائيلية التي كبّر لها غالبية السوريين أنها تجعل من إسرائيل مخلّصاً ومحرّراً، وهو ما استثمره مقاولو النظام من شبيحة وسواهم في تأثيم المعارضة، والربط الميكانيكي بينها وبين العمالة لإسرائيل.

بيد أن للمسألة وجهاً آخر يتصل بعذابات الضحايا الذين لا يهمهم هوية المخلّص، ولا وقت لديهم لتفحص أهدافه ومآربه، وتحليل نواياه. إن لحظة النجاة، والهروب من حتمية الموت الزؤام هما ما يعنيان أولئك الذين ينتظرون حتفهم بين عشية وضحاها. إنها القنطرة بين الوجود والعدم، بين البقاء والتلاشي. إنهم غرقى في بحر هائج من الدماء، ولا يهمهم في تلك اللحظة المصيرية المبهمة إن كانت اليد التي تنتشلهم من الهاوية إسرائيلية أم لا. ويستدعي هذا الأمر النظر إلى عمق الحضيض الذي وصل إليه الضحايا، لأنهم وعلى نحو غريزي بعيد من برودة التحليل المنطقي يقارنون بين بشار الأسد وبين إسرائيل، فيرون في الثانية أهون الشرّين، فلقد تفوق الأسد في دمويته وبربريته على إسرائيل وأزاحها عن سدة الوحشية. وما يود كثيرون أن يغمضوا العين عنه أن إسرائيل لا تقدم على أي خطوة ما لم تكن تصب في خدمة مصالحها المباشرة، فهي ليست متألمة على قتل السوريين، ولا يهزّ بدنها المجازر وأشلاء الأطفال والبيوت المهدمة التي لم نر مثلها في الحرب العالمية الثانية. ولا يهم إسرائيل بقاء بشار الأسد أو رحيله، إلا إذا كان ذلك يحقق أمنها، ويؤمّن هدوء جبهة الجولان. ولئن كانت الغارات الإسرائيلية تسببت بصداع للمعارضة السورية بسبب اتهامها بالتنسيق مع «العدو الصهيوني» وإتاحة المجال أمام طيرانه لقصف عاصمة عربية، فإنها أيضاً تتسبب الآن بصداع أشد قسوة لأنصار النظام وشبيحته ومشايعيه ممن ينتظرون استحقاق الرد بعد أن أزبد أبواق النظام وأرغوا، وملأوا الأثير ضجيجاً لفظياً أحيا أكذوبة «المقاومة والممانعة».

وفي غمرة ذلك كله، لا ترتفع عقيرة الضمير الإنساني بالاحتجاج على مصائر البشر الآفلين الذين ينتظرون الموت في المدن السورية وأريافها، لا سيما أن الغارات الإسرائيلية شحنت بطارية الشر لدى نظام بشار الأسد، فراح يقتل من تبقى من كائنات، ويدمر البيوت بلا حسيب أو رقيب أو خوف من جعجعة لفظية دولية بالتدخل العسكري لوقف حرب الإبادة. لقد أولغ النظام نصله في أجساد السوريين حتى أضحى من العار أن نؤاخذهم على تكبيرة هنا أو تهليلة هناك، ابتهاجاً بالقصف الإسرائيلي. فهل ساءل أحدنا أولئك المحدقين في عين الهاوية، لماذا فعلوا ذلك، وهم يعرفون ما هي إسرائيل، وما معنى أن تقصف بلادهم. إنها المأساة، تنتج النقائض، وتجعل العدو «صديقاً» في لحظة العماء وانعدام اليقين!

* كاتب وصحافي أردني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى