صفحات الرأيناصر الرباط

في ما خصّ وهم العودة إلى التراث/ ناصر الرباط

 

 

في واحد من أكثر حواراتهما سخرية، يتبادل الفنانان زياد الرحباني ونظيره جوزيف صقر الحديث حول التراث، ويفككانه بالتذكير بصوره الريفية المبالغ بها مثل النبع، وشلح الزنبق، والميجانا، ليذكّرانا باصطناعيته التاريخية التي خبأت وراءها مظاهر كثيرة تتعارض والصورة التي أرادها بناة الوطن اللبناني الحديث، بتركيزها على القروي والأصيل والطبيعي، عندما كان اللبنانيون يتقاتلون ويقتلون كل ما هو أصيل وطبيعي في وطنهم.

وفي آخر مظاهر تقهقر الثقافة العربية، عاد الحديث عن التراث لتصدر واجهة الاهتمامات في عالمنا العربي الذي استغرق مؤخراً في انهماك عصابي بجلد الذات. كيف نتمثل هذا التراث اليوم في حياتنا الخاصة والعامة وعلاقاتنا مع بعضنا البعض، ولكنْ أيضاً كورثة ألوان الطيف المختلفة التي أنتجها هذا العصر المسمى بالذهبي، بخاصة أن كلاً منا يصاب بعمى الألوان عندما يحول بصره عن رقعته الانتمائية إلى رقعة غيره، أو عندما يقرر النظر في الحقبات الطوال التي تفصلنا عن هذا العصر الذهبي؟ وكيف نمثل هذا العصر في ذاكرتنا الجمعية كمجتمعات متماثلة ومتشاركة في هذا الإرث وفي فضاءات مدننا المكتظة وقرانا المهملة وحيوات شعوبنا المقموعة التي تتقطع بها الصلة بالحداثة يوماً بعد يوم؟

هل هو فعلاً إرث العصر الذي ظهرت فيه أول دولة إسلامية بقيادة الرسول وصحبه والتي أسست على العدل والتقوى؟ هل هو ما خلفه لنا العصر الذي تلاها والذي فتحت فيه الجيوش العربية مشارق العالم القديم ومغاربه وانتصرت على أعظم أمبراطوريتين معاصرتين؟ هل هو نفس العصر الذي ازدهرت فيه المعارف والعلوم والفنون والآداب في بلاد الخلافة؟ هل هو العصر الذي انجب أهم أعلام الأمة الإسلامية في كل هذه الحقول، وأنجب أيضاً بعضاً من فطاحل فقهائها وسياسييها ومبشريها ومبتدعي أو مؤسسي فرقها ومذاهبها وطوائفها؟ هل هو العصر الذي ربط بين علم الأقدمين ونهضة القرون الوسطى وحافظ للعالم على التراث الكلاسيكي وهذبه ونقحه وأضاف عليه، ثم تركه لغيره يطوره ويدعيه لنفسه؟ هل هو العصر الذي سطع فيه نجم الفكر والفلسفة الإسلاميين التنويريين ثم تراجعا تحت وطأة فكر ديني محافظ أحلّ النقل مقام العقل والتقليد مقام التجديد؟ هل هو العصر الذي شهد أفول نجم العرب الفاتحين والحاكمين وصعود نجم الأقليات غير العربية التي كانت مهمشة في البداية والتي استلمت زمام الحركة الفكرية الإسلامية لقرون؟ هل هو العصر الذي رعى تطور اللغة العربية لتصبح لغة عالم إسلامي يمتد من جنوب أوروبا إلى حدود الصين، ثم قبل بانكماشها الى الأراضي التي ما زالت تتكلم العربية حتى اليوم وحلول لغات أخرى كالفارسية والتركية والآردية والسواحلية محلها؟ هل هو العصر الذي شهد تمزق الأمة الاسلامية إلى شيع وأحزاب وممالك ودول تتحارب أحياناً وتتصافى أحياناً أخرى وتحن دوماً في ذاكرتها الجمعية لعصر ذهبي ولّى؟ هو كل ذلك وأكثر وأقل منه في الآن نفسه؟ هو قاعدة فخرنا، ولكنه أيضاً صليبنا الذي تحت ثقله نئن. هو خلفيتنا التي تستبطن وعينا ولا وعينا، وتلهم فهمنا لهويتنا وتؤثر في آرائنا وتصرفاتنا ومفاهيمنا ومعتقداتنا، ولكنه أيضاً وعاء فشلنا وتشرذمنا الذي ما زلنا لا نعرف كيف نخرج من شرنقته. هو تاريخنا لكنه، عندما نفقد القدرة على الانتماء لزمننا كما يحصل لنا هذه الأيام، يصبح حاضرنا: إنجازاته إنجازاتنا وفشله فشلنا، انتصاراته انتصاراتنا وخسائره خسائرنا، معاركه معاركنا وعداواته عداواتنا، حتى تلك التي زالت أسبابها ومسبباتها وممثلوها، ولكن بقيت منها جـذوات وجذوات قـابـلة للاتّـقاد كلما عـنّ لبـال صيـادٍ في الماء العكر أن يحركها أو يعرضها للهواء قليلاً.

هذا ما نراه اليوم في حروب العرب العبثية: تراثهم مفصل على مقاسات أمراء حروبهم ومنظريها ومفرود في صراعات عدمية، كل منها يحتكم لواحدة من الحقب أو واحد من الممثلين الفاعلين والمؤثرين على طول وعرض التاريخ الإسلامي. لكنه أيضاً تاريخهم مجموعاً في فراغ واحد ومنطق واحد كأنما ليذكرنا بتعقيده وكثافته وتواصله. مع من؟ مع بعضه البعض كمسار مستقيم يمتد من الماضي إلى الحاضر أم مع نفسه في حركة نرجسية دائرية لا تعترف بالتراكم التاريخي والاستمرار الزمني؟ هذه الأسئلة المرمزة صعبة، ولا أظن أن أي متصدر للإجابة عنها سيلقى رضا الجمهور. ونيل هذا الرضا على كل الأحوال درجة لا يمكن تحصيلها وإلا لكانت نسبة الـ٩٩ في المئة في الانتخابات العربية الثورية صادقة وكانت كل النكات الرائجة عنها مغرضة.

ولكن البوح أجرح لأن الأسى أعمق. وربما كانت هذه الحلقة المهيمنة اليوم والرافضة للتاريخ الذي نجد أنفسنا حولها أو تحتها أو داخلها، حسب موقعنا في زمن الحداثة أو التراث أو صلتنا بالرموز الحية للعصر الذهبي الموهوم رمز أسرنا نحن كلنا، كلما أوشكنا منها فكاكاً وتخيلنا أن التاريخ بنهاية الأمر خطي مستمر عادت الذاكرة الجمعية المكلومة والمنكفئة على ذاتها التي تجسدها آخر إفرازات جروحنا النازفة لتأكيد دوراننا في حلقة التراث: نصعد مرة مع زهوها أو زهونا بها وننزل مرات مع كبواتها. أو، وهذا هو الأنكى، يتزايد إدراكنا بأن ما نظنه حاضراً أو مستقبلاً ممكناً ما هو إلا ماضٍ ذهب بكل عجره وبجره وبقيت لنا منه الذكرى، وربما بعض العبرة. لكن العالم في نهاية الأمر مضمار منافسة، والدول والمجتمعات تتسابق لنيل منجزات الحاضر وحجز دور لنفسها في تسيير المستقبل، والتاريخ كان ولما يزل كتاباً مفتوحاً ولكننا فقدنا القدرة على القراءة أو الرغبة فيها.

* كاتب سوري وأستاذ الآغا خان للعمارة الاسلامية، معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا M.I.T

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى