صفحات العالم

في ما يخص خطابات الثورة السورية/ ماجد كيالي

 

 

منذ البداية، افتقرت الثورة السورية إلى خطابات واضحة، أو ناجزة، على رغم كل الوضوح في شرعيتها التاريخية، السياسية والأخلاقية، والأسباب التي أدت إليها، بخاصة في ما يتعلق بتوق غالبية السوريين للتحرّر من نظام الاستبداد، الذي جعل المجتمع والدولة السوريين يستعصيان على التطوّر السياسي والاقتصادي والاجتماعي، قرابة نصف قرن.

الحديث هنا يتعلق بشعب عانى لعقود من غياب الحريات الفردية، وتسلط نظام الحكم، وهيمنة الشعارات الديماغوجية، والحرمان من المشاركة السياسية، ومن إقامة الأحزاب، بالتالي فنحن إزاء شعب لم يستطع أن يراكم خبرات سياسية، لا على صعيد الأفكار ولا على صعيد الممارسة، الأمر الذي يفسّر ضعف الخطابات السياسية للثورة السورية، أو تخبّطها، لاسيما أنها انفجرت في شكل عفوي ومن دون كيانات سياسية واضحة المعالم.

في البداية، أو في العامين الأولين من الثورة، حيث طغت عليها أشكال العمل الشعبية والسلمية، غلبت الخطابات التي تتحدث عن إسقاط نظام الاستبداد، وإقامة دولة مدنية وديموقراطية، دولة مواطنين متساوين وأحرار، وهذا كان واضحاً في وثائق مؤتمرات القاهرة، بل حتى في وثيقة صدرت عن حركة «الإخوان المسلمين» السوريين (آذار – مارس 2012)، أي أن الثورة الديموقراطية طبعت حتى التيار الإسلامي بطابعها.

بيد أن التحوّل، في ما بعد، نحو العمل المسلح، وانحسار أشكال الكفاح الشعبية، نتيجة تغوّل النظام، في سعيه إلى وأد الثورة، باستخدامه أقصى طاقته من العنف، وتعمّده تدفيع السوريين الأثمان الباهظة للتمرد عليه، باستهداف ما يسمى المناطق الشعبية الحاضنة، وتشريد سكانها، بالحصار والقصف بالصواريخ والبراميل المتفجرة، أديا إلى تحول نوعي كبير في طابع الثورة. هكذا أضحت ثورة السوريين محصورة بجماعات مسلحة، تعتمد على الخارج، أو تخضع لتوظيفات الداعمين، وتوجيهاتهم، وهذا أدى ضمن سياقات وديناميات معينة، ناجمة عن عوامل داخلية وخارجية، إلى تغلغل أو غلبة الخطابات ذات الطابع الطائفي، وتالياً الديني، وهو ما نشهد تداعياته حتى اليوم.

لم تستطع القوى ذات الخطابات المدنية، الوطنية الديموقراطية، من الصمود في الصراع على طابع الثورة السورية، وأهدافها، إذ إن هذه القوى ضعيفة أصلاً، ولم تتوافر لها عوامل الدعم الخارجي، التي انصبت على التسهيل لصعود الجماعات العسكرية الإسلامية، فاقم من ذلك أن تلك القوى لم تتوحد في كيان سياسي معين، أو في كتلة سياسية، إذ ظل التعبير عنها يصدر عن أفراد لا جامع بينهم. مع ذلك، فإن هؤلاء نجحوا، إلى حد ما، ورغم كل الصعوبات، في تمييز الخطابات الوطنية الديموقراطية بوصفها التعبير الأسمى عن ثورة السوريين، كما في نقدهم التجربة الحاصلة، وكشفهم أخطار العسكرة والارتهان للخارج والتحول نحو الطائفية وصبغ الثورة بالطابع الديني. ويأتي ضمن ذلك التبرؤ من كيانات مثل «جبهة النصرة»، وغيرها من جماعات الإسلام السياسي السلفي «الجهادي»، الذي أثقل على الثورة وأضر بمجتمع السوريين، وساهم في خدمة النظام وفك عزلته، في سعيه إلى الترويج لتشويه الثورة وصبغها بالطائفية والتدين والإرهاب، الأمر الذي بات يحظى بإجماع أكبر اليوم أكثر من أي وقت مضى، كما تبين من بيان «الائتلاف» الذي تبرأت من «جبهة النصرة»، قبل أشهر عدة فقط.

القصد أن عدم وضوح خطابات الثورة السورية، المتعلقة بتعريف طابعها، وتحديد أهدافها، وصوغ رؤيتها لمستقبل سورية، أثر سلباً في صورتها، ليس إزاء العالم فقط، وإنما حتى إزاء مجتمع السوريين، الذين وجدوا أنفسهم في حيرة من أمرهم، بين الخطابات الوطنية الديموقراطية والخطابات الطائفية والدينية. وقد حصل ذلك خصوصاً بعدما خرج الأمر من أيديهم، نتيجة إخراج غالبيتهم من معادلات الصراع مع النظام، بالقتل والحصار والتشريد، وبعدما أضحى الفاعلون الخارجيون (الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران ودول عربية أخرى) يتحكمون بالصراع الدائر، بعد الانتقال من الصراع على السياسة والسلطة في سورية إلى الصراع الدولي والإقليمي على سورية.

تخبط السوريون في تحديد طابع ثورتهم، وتعيين أهدافها، واختلفوا على شكل سورية المستقبل ونظامها السياسي، لا سيما مع غياب كيانات سياسية جامعة، بين كونها ثورة وطنية ديموقراطية، وبين كونها ثورة ذات طابع ديني، تستهدف «نصرة» الإسلام، وتعادي الديموقراطية، باعتبارها منتجاً «غربياً»، وغريباً عن الثقافة المحلية، في وضع لم يكن فيه النظام، طوال عقوده الماضية، يستهدف الإسلام أو المسلمين، بخاصة «السنّة»، في سورية باعتبارهم كذلك. ومعلوم أن النظام، طوال الفترة الماضية، اهتم كثيراً بإيجاد اتجاهات إسلامية («سنية») موالية له أو قريبة منه وتنميتها. يشهد على ذلك، مثلاً، بروز مشايخ ودعاة دين كبار (البوطي وكفتارو وحبنكة وشيخو وغيرهم)، مع موالين كثرٍ، ووجود معاهد إسلامية كبيرة درس فيها عشرات آلاف الطلاب من كل الدول الإسلامية، ووجود جماعة كبيرة مثل «القبيسيات»، وهي بمثابة تنظيم نسائي إسلامي يضاهي أكبر الأحزاب. كما يشمل ذلك الاهتمام بجمعيات حفظ القرآن، وبناء الجوامع، والتسهيل على إنشاء جمعيات خيرية خدمية، في وقت كان النظام ينكل بأحزاب المعارضة، اليسارية وجماعة «الإخوان المسلمين» طبعاً، باعتبارها معارضة، وليس لأي طابع أيديولوجي.

المشكلة أن التخبّط والاختلاف والضياع، والارتهان للخارج، ما زالت قائمة رغم مرور أزيد من ستة أعوام على الثورة، ورغم كل الأخطار والأثمان التي دفعها السوريون، يفاقم من ذلك ضعف إرادة المعنيين، أو الفاعلين، في الثورة، على إدارة نقاش منتج وحيوي، يتعلق بحسم هذه الخلافات، وضمنه إيجاد كيانات سياسية جامعة، تمثل السوريين وتعبر عن توقهم للحرية والمواطنة والديموقراطية.وربما يكمن ذلك، أيضاً، في ضعف إدراكاتهم لأهمية كل ذلك، واستمرائهم واقع الحال، وهذه مصيبة أعظم.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى