صفحات سورية

في متاهات الطائفية


لاحظت عند الأصدقاء، ومنذ بداية الثورة، اتجاهين مختلفين في ما يتعلق بالحديث عن الطائفية. الأول يعتقد أنه لا داعي للدخول في متاهات الطائفية، والتي هي ملعب النظام بامتياز، والمشكلة الطائفية، إن وجدت عند البعض، فهي تحل بتبني طرح ديموقراطي و بالدعوة لدولة مدنية تحفظ حقوق كل إنسان مهما كانت طائفته أو عقيدته أو عرقه. الرأي الثاني يعتبر أن الطائفية هي مشكلة موجودة من الصعب إنكارها وهي من التجذر الى الحد الذي صار يحتاج إلى معالجة نوعية ،ومعالجة الطائفية لا تتم بدون الحديث عنها بشكل مباشر. عن طريق تفنيد أسبابها، التوعية بأخطارها، تأريخ منشأها إن أمكن، و طبعا تعرية الخطاب الطائفي، المبطن منه والظاهر، و التوعية بمخاطره

على عكس ما يبدو للوهلة الأولى، ليس هناك من خلاف كبير بين النظرتين. أن نتكلم أو ألا نتكلم عن الطائفية، المسألة تتعلق بما نحن بصدد فعله، لأوضح قصدي سأستعير الحديث الشهير“إعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً ، وأعمل لآخرتك كأنك تموت غداً “، لأقول: أنسى الطائفية حين تكتب مسودة ميثاق أو دستور، و اجعلها نصب عينيك في كل ما يتعلق بالحفاظ على الوحدة الوطنية

لماذا الخوف من الكلام عن الطائفية؟

يخشى البعض أن يؤدي كلام المثقفين عن الطائفية، خاصة إذا خلى من الدقة، إلى تأجيج الطائفية نفسها. أعتقد أن هذا الخوف مبالغ فيه، وهو يشبه إلى حد كبير الخوف من الإصابة بالجنون لمن هو سليم العقل، لمجرد أنه زار طبيبا نفسيا، طبعا هو خوف لا مرتكز له حتى لو كان هذا الطبيب فاشلا. ويتمنى البعض بصدق ألا تصل تحليلاتنا (أو محاولاتنا للتحليل ) عن الطائفية إلى مسامع الناس العادية، كي لا تثير مشاعر سلبية. وكأن الشعب هم من القاصرين الذين يجب حمايتهم من الحديث عن الطائفية كما نحمي الأطفال من الصور الإباحية. ينسى هؤلاء أن الحديث في الطائفية موجود في كل الأوساط و ربما المثقفين هم أقل من يتناوله، وهذا خطأهم

صحيح أن في الطائفية ما يرعب، ولكنه ليس الرعب المثبط للعزيمة بل هو الرعب الذي يشعرك بحجم المهمة التي نحن بصددها وبصعوبتها. نقرأ أحيانا بعض التعليقات الطائفية المعادية للعلويين على بعض الفيديوهات، نتمنى أننا لم نقرأها، نقنع أنفسنا أن أعوان النظام هم من يكتبون كل ذلك، نسمع عن ترحيب بعض القرى العلوية بالزغاريد للقطع العسكرية العائدة من تلكلخ، نتألم أشد الألم. نقر أن النظام قد نجح إلى حد بعيد في اللعب على وتر الطائفية

لا يهم كثيرا إذا كانت خطيئة الأسد أم خطيئة سليم الأول أم خطيئة الحجاج، المهم أنها هنا، الطائفية. و بصراحة أنا أحيي القلائل الذين يحاولون أن يجتهدوا في الموضوع وأعاتب من يصر على لملمته مع المحرمات الأخرى

طبعا أنا لست عالم اجتماع ولا مؤرخ لأساهم في الحوار عن الطائفية في سورية، ولكني أحب أن أسرد تجربة شخصية كانت لي في منتهى الغنى. وصلت متأخرا في أول أيام المعسكر الجامعي في حلب، فأرسلوني بعد التوبيخ، إلى الخيمة الوحيدة الباقية التي لم يكتمل عددها بعد. سلمت على الشباب التسعة، تعارفنا، أكلنا ونمنا دون أن ألحظ شيئا غريبا. وجاء الصباح ولم ألحظ. طبعا كانت سنوات “السلام المدني” التي تلت أحداث الثمانينات وانتصارات الأسد في هذه الأحداث. بعد الظهر جاءني أحد الطلاب من خيمة أخرى فعرض علي تغيير خيمتي، قال لي تكلمت مع رفاقي في الخيمة يمكن أن تتسع خيمتنا لفراش إضافي، تعال لعندنا وأبقى معهم عند تحية العلم فقط. لقد فهمت عندها أن رفاقي التسعة في الخيمة هم علويون وأن هناك خيمة أخرى من المسيحيين يريدون مساعدتي على المصيبة التي حلت بي برأيهم. لم تكن الخيام موزعة حسب الدين فقط، اذ كان هناك السنة الأغنياء (أبناء حي الشهباء مثلا)، والسنة الفقراء(الأنصاري أو الحميدية)، كما كان هناك مسيحيو حلب مع بعضهم ومسيحيو وادي النصارى مع بعضهم. طبعا رفضت وقضيت باقي أيام المعسكر مع زملائي العلويين، كان من أجمل معسكراتي. وصل التبادل الثقافي اوجه مع اقتراب نهاية المعسكر، فتعلمت منهم شرب المتة وما زلت أشربها الى اليوم بل صارت هي ما يميزني هنا في فرنسا، أما هم فتعلموا مني لعبة البوكر، وربما ما يزالون يلعبوها. أكبر صدمة ثقافية كانت تتعلق بالصيد إذ فهمت أنهم، أو بعضهم، لا يصيد أنثى الطيور. أنتهى المعسكر وعدنا إلى الجامعة فإذا بالكثير من الطلاب يعتقد أنني علوي، بينما نسي حقيقة انتمائي من كان يعرف أني مسيحي، ما زاد الطين بلة، أنه كان هناك ضابط علوي معروف من عائلة الحلو، وصار هناك من يتودد إلي أملا في أن اسديه خدمة يوما ما. لم أجهد كثيرا في إنكار علويتي، بل تركتهم يعتقدون ما يريدون. وفهمت يومها شيئا واحدا: الطوائف في سورية لا تباعدها المعتقدات. لا أحد يحاجج بالمذاهب والكثير لا يعرف مذهبه جيدا. ورأيت يومها الى أي حد نظرة الأخر هي ما يحدد ما أنت عليه. في اليوم الذي تتحطم مرآة الأخر أو تتغير فتفسح المجال لتعدد الألوان التي تعكسها، لن نشعر بعدها كثيرا بانتمائنا الطائفي. فيما عدا نظرة الأخر، السوريون متشابهون في أكلهم ونومهم وشربهم وضحكهم وغضبهم ومشاعرهم.. متشابهون إلى درجة الملل

الطائفية تماما ككرة الثلج تبدأ من أشياء صغيرة تحاشيناها ، تكبر طالما لم يعترض طريقها أحد، وتبلغ حجما يثير الرعب على الرغم من هشاشتها

طالما استرجعت تجربة المعسكر لأذكر نفسي كم هي الطائفية واهية وستعجز عن الصمود في مجتمع سليم. الجميل في ما أراه و أعاينه اليوم هو أن من اقترب من الثورة ابتعد عن الطائفية بنفس المسافة، ليس في ذلك سرا، ما دامت الثورة تحمل في طياتها جنين مجتمع سليم، أو هكذا يفترض

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى