صفحات سورية

في محافظة إدلب المُحرَّرة: مُدنٌ وبلداتٌ ســـعـــيـــدة بــعــــد جــــــلاء الـــشــــــبّـــيـــحـــــة


يارا نصير

يارا نصير، مراسلة موقع “NOW” انتقلت إلى الداخل السوري “المحرّر” لتروي قصصاً عن حياة السكان ومعاناتهم وآمالهم وتطلّعاتهم في رحاب الثورة السورية، فيما يواصل النظام انهياره على وقع ضربات “الجيش الحر” وتظاهرات لا تزال تخرج يومياً على رغم المعارك الدائرة في أكثر من محافظة.

بدأت رحلتنا التي لطالما انتظرناها من الأراضي التركية، وتحديداً من بلدة الريحانية الحدودية الواقعة جنوب البلاد. من الريحانية، انطلقت الرحلة إلى بلدة بيرالياس على الشريط الحدودي. أن ترى مجموعات من الأشخاص يحملون متاعهم ويعبرون الشريط سيراً على الأقدام بات مشهداً مألوفاً لأهالي المنطقة. لاجئون هاربون من الداخل إلى تركيا أو في المقابل صحافيون ونشطاء يعبرون إلى الداخل في الاتجاه المعاكس، وهذا ما فعلناه. حملنا متاعنا وسرنا مسافة كيلومترين حتى وصلنا إلى موقف السرفيس على الأراضي السورية، موقف صغير مرتجل صُمم للتكيف مع تدفق وصول القادمين، يناولونك ماء ويستقبلونك بعبارات الترحيب وصوت القاشوش يصدح من مسجلة قديمة.. “ويلا إرحل يا بشار..”

محطتنا الأولى كانت بلدة أطمة الحدودية، وتحديداً مخفر البلدة الذي كان وكما يصفه “أبو أحمد” مركزاً للتحقيق والتعذيب في عهد النظام، “اليوم أصبح المخفر مركزاً للتلاقي والتعارف وأيضاً لتنظيم شؤون الحياة في البلدة وتنظيم سجلات مرور الجرحى والنازحين” يقول “أبو أحمد” الذي ينشط كغيره من سكان المنطقة في مساعدة الوافدين ويبدو سعيداً وفخوراً بقدرة الأهالي على تنظيم حياتهم بأنفسهم. في أطمة، تبدو الإدارة المحلية ناجحة في تسيير شؤون الحياة اليومية في الوقت الذي تغيب فيه بشكل كامل سلطة الدولة على الأرض.

“الخال ظاظا”

في أطمة التقينا إحدى الشخصيات الأكثر إثارة وشهرة على الإطلاق، “الخال ظاظا” الذي حصل على لقبه تيمناً بإحدى شخصيات مسلسل “وادي الذئاب” التركي الشهير. يشرف الخال على إدارة شؤون البلدة وعلى حسن سير العمل التنظيمي من مساعدة للنازحين وإيصال الجرحى إلى المستشفيات. كما يُشرف على شباب “الجيش الحر” الموجودين هناك، والذين يأخذون على عاتقهم مساعدة الأهالي من جهة، ودعم العمليات العسكرية عند الحاجة في المناطق المجاورة من جهة أخرى.

يُبدي ” الخال ظاظا”، واسمه الحقيقي عبد الرحمن جمعة، انزعاجاً واضحاً من عمل المعارضة ومن الدعم العربي لسلاح “الجيش الحر”. “السلاح الذي يرسلونه يريدون به قتلنا، كيف يتوقعون أن نواجه قوات النظام وبطشه ببنادق هزيلة وذخيرة محدودة؟ إن كانوا جادين في دعمنا، عليهم أن يرسلوا لنا أسلحة حقيقية!”. كما يعرب الخال عن غضبه من قلة الدعم المالي والإغاثي، ومن طريقة التعامل غير المسؤولة مع الجرحى. ويبدي أسفه لإضطرار الأهالي إلى الاعتماد على أنفسهم في إغاثة النازحين، ودعم المقاومة المسلحة في ظل شح الموارد وانقطاع مصادر الدخل.

ودّعنا الخال “القبضاي” وشباب “الجيش الحر” في المخفر. كان علينا أن نغادر أطمة سريعاً لنوغل أكثر فأكثر في ريف إدلب الأخضر. مررنا في طريقنا بعدد كبير من القرى إذ توجب أن نتجنب الطرق العامة هرباً من حواجز الجيش والشبيحة المتمركزة في بعض النقاط. شاهدنا أثناء الرحلة علم الاستقلال يرفرف فوق منازل الدانة، سرمدا، كفركرميد، الأتارب، الجينة، كفر ناصر وصولاً إلى تفتناز.

تثير تفتناز كثيراً من الشجون عندما يتذكر المرء كيف اقتحمها الشبيحة قبل بضعة شهور، وارتكبوا فيها مجازر كبرى راح ضحيتها أكثر من مئة قتيل، ودمروا وأحرقوا ما يزيد على مئتين وخمسين بيتاً. آثار الدمار لا تخفي نفسها، وهدوء حزين يلف المكان بأكمله.

إفطار في بنش الحرة

وصلنا أخيراً إلى بنش. “بنش الحرة”، تصحح لي “أم مصطفى”، وهي تريني بلاط بيتها الذي كسره الشبيحة عندما داهموا المكان. لـ”أم مصطفى” تسعة أبناء وبنات منخرطون تماماً في أعمال الثورة الإعلامية والإغاثية والعسكرية على السواء. “كانوا يسرقون كل ما يرونه، وعندما تمتلىء سياراتهم بالغنائم ويعجزون عن حمل المزيد، كانوا يحطمون كل شيء”. تصف لي أفعال الشبيحة في بنش، في حين يأخذني مصطفى في جولة في المكان، ويريني بكل فخر واعتزاز اللافتة الكبيرة التي خُطت على مدخل المدينة: “بنش الحرة”!

في بنش المحررة، تبدو الحياة طبيعية إلى حد بعيد. محال تجارية تفتح أبوابها لوقت متأخر في مظهر رمضاني لافت يغيب عن بقية المناطق، وسيارات تجول المدينة بحرية.

“اقتحمت قوات النظام المدينة بشراسة في رمضان الماضي”، يخبرني الشباب في جلسة بعد وجبة إفطار شهية على الطريقة “البنشية”. وعلى حد قولهم،لم يكن السبب هو وجود مسلحين على الإطلاق، لكن حراك المدينة السلمي اللافت كان مستفزاً. فتظاهرات بنش ولافتاتها الشهيرة، وزحفها إلى بقية المناطق المجاورة مثل الطعوم وسراقب وسرمين بهدف تحفيزها على مزيد من التظاهر كان أمراً أكبر من أن يحتمله النظام. فاقتحمت قواته المدينة في السابع والعشرين من رمضان العام الماضي، ودمرت المنازل وأحرقتها، واعتقلت أكثر من 250 شاباً من أبناء المدينة. سرق الشبيحة الأموال والذهب وأثاث البيوت وأحرقوا ملابس عيد الأطفال. بعد الاقتحام، اتخذ الأهالي قراراً بالتسلح دفاعاً عن أنفسهم في وجه هجوم قادم، وبالفعل، عاد الجيش وفرق الأمن إلى المدينة مع نهاية العام، لكنهم وجدوا أنفسهم هذه المرة في مأزق كبير. فالمدينة كانت مستعدة، “فجرنا باصي شبيحة بألغام زرعناها في الأرض”، يقول عبد الله. ومن ثم بدأت الاشتباكات بين الجيشين النظامي و”الحر”، لكن قوات النظام سرعان ما انسحبت من المدينة بعدما فشلت في احتلالها. ومنذ ذلك الحين، لم تجرؤ على الدخول ثانية.

حمزة الزيواني

يقود حمزة الزيواني سيارة شحن صغيرة يطلق عليها باللغة الدارجة “طرطيرة”، يحمل عليها جرات غاز مرة، وخضاراً وفاكهة مرات. أما وكيف أصبح حمزة و”طرطيرته” رمزاً لبنش فذلك بسبب شجاعته غير المحدودة، فهو استخدم تجارته المتواضعة ليدعم الثورة ويخدمها منذ الأيام الأولى للحراك، إذ كان يسير منادياً على بضاعته داعياً بأعلى صوته أهل المدينة للخروج في تظاهرة،  أو منبهاً إياهم من اقتحامات متوقعة للأمن أو حتى ناقلاً للجميع أخبار الثورة في المناطق المجاورة. وكانت الطريقة التي ينادي بها على البضاعة أكثر ما جعله محبباً لدى الناس “معنا بندورة ومعنا خيار .. يحرق روحك يا بشار” و”معنا بطيخ معنا جبس .. الله يفك أسر اللي انحبس”. تضحك مايا من قلبها وهي تروي لي قصصه المسلية.

لم يحتمل عناصر الأمن والشبيحة وجود حمزة في المدينة، فأحرقوا له السيارة، لكن الأهالي قاموا بحملة تبرعات محلية أعادت لمنادي الثورة سيارته وصوته الرنان من جديد.

من بنش توجهنا إلى سراقب، مركز ريف إدلب الاستراتيجي، كانت ليلة مروعة على أصوات القصف، مليئة بتفاصيل جميلة عشناها مع شباب المدينة. لا يتسع المكان هنا لذكرها ولعلنا نرويها في مرة قادمة.. وللحديث بقية.

سراقب المحرّرة .. أبطال يعيشون في الجحيم

غرافيتي من سراقب مُهدى إلى شيماء بريك الطفلة التي فقدت ساقيها. (NOW)

يارا نصير، مراسلة موقع “NOW” انتقلت إلى الداخل السوري “المحرّر” لتروي قصصاً عن حياة السكان ومعاناتهم وآمالهم وتطلّعاتهم في رحاب الثورة السورية، فيما يواصل النظام انهياره على وقع ضربات “الجيش الحر” وتظاهرات لا تزال تخرج يومياً على الرغم من المعارك الدائرة في أكثر من محافظة.

يصوّر برتولد بريخت، المسرحي الألماني الذي رصد في نصوصه تجربة الحرب العالمية الثانية، “الإنسان البطل”، على أنه إنسان عادي بسيط، لم يسمع بقصّته أحد ولم تُشهِرُه وسائل الإعلام، لكنّه في العمق بطل عظيم بتجربته الذاتية وبقدرته العظيمة على التأثير في حياة الآخرين، هو البطل الذي يطوي بين جناحيه أسطورته الشخصية ويحميها من متصيدي الأخبار العاجلة، لا تكشفها إلا عين فضولية دافعها الشغف. كانت مدينة سراقب التي وصلتُ إليها مؤخراً بامتياز مدينة “أناس أبطال”، يبدون للوهلة الأولى أشخاصاً عاديين يعملون في مهن عادية ويعيشون حياتهم كما اعتادوا منذ زمن.

بعد قضاء وقت مترع بزخم تجربة سراقب، يدرك الزائر أنّه لا يوجد فيها أشخاص عاديون، بل أبطال يعيشون ملاحمهم البطولية في صمت تتخلّله أحياناً ابتسامة وربما ضحكة، بحسب ما تسعف المعنويات على الضحك، لكن من دون دموع.

 عبد الله دافن الشهداء

في ذلك المساء، كنّا مجتمعين على مائدة الإفطار، نأكل بصمت ونفكر أين سقطت القذيفة التي هزت المدينة منذ قليل؟ هل هناك شهداء، جرحى أم أيتام جدد؟ فسراقب اعتادت أن تفطر في رمضان على العديد من القذائف المتتابعة، قذائف تدكّ كل يوم بضعة بيوت وتثكل بضع أمهات. دخل بهدوء وتمتم سلاماً خافتاً، جرَّ كرسيه تحت شجرة الرمان ثم أشعل سيجارة. همس “أبو علي” في أذني: “هذا عبدو، يدفن شهداء سراقب، فإن كنت تبحثين عن بطل في المدينة فقد وجدتِه”.

سحبتُ كرسياً وجلست قربه، وسرعان ما لفّنا حديث طويل ذو شجون. اسمه عبد الإله أصلان، كان مغترباً معظم حياته وعاد منذ خمس سنوات ليستقر في سراقب، مصاب بمرض في القلب ويعمل في تجارة العقارات ومؤخراً دهان. كان من أوائل المشاركين في التظاهرة الأولى في المدينة، والتي خرجت من جامع الزاوية. قرر عبدو، كما يناديه أصحابه، أن يصبح دافن الشهداء في سراقب بعدما دفن بيديه غسان العبود، أول شهيد سقط في المدينة. كان العبود جندياً في الجيش رفض إطلاق النار فقتلوه برصاصة من الخلف. يقول عبد الإله: “حزنت عليه لأنه كان مظلوماً، حملته إلى القبر بيدي وبكيت وبكيت وبكيت … قلت لهم انتظروا فإن الأعظم قادم.. وهذا ما حصل”.

من يومها، أقسم أن يدفن بنفسه جميع الشهداء لكنه لم يستطع الوفاء بقسمه دائماً لأن عدد الشهداء في المجازر كان أكبر من أن يحتمل دفنهم وحده.

لم يعتد عبدو الموت، في كل مرة يدفن فيها شهيداً يبكي وكأنها المرة الأولى. روى حكاية الثلاثاء الأسود لسراقب في السابع والعشرين من آذار (مارس) الماضي. في السبت الذي سبقه دخل الجيش إلى المدينة، طرق بعض العسكر الأبواب في الحي الجنوبي طلباً للطعام، وحذّروا الأهالي من مجيء الشبّيحة في الأيام التالية، وصفوهم بأنهم “وحوش” وطلبوا من شباب “الجيش الحر” أن يغادروا قبل وصولهم. الشباب رفضوا وأصرّوا على البقاء لحماية الأهالي. الجنود الذي احتلّوا الحي الشمالي تصرفوا بطريقة مختلفة تماماً، حرقوا البيوت وهدموا بعضها ونهبوا المحال التجارية وقتلوا واعتقلوا. حاول بعض الأهالي الهرب فقتلوا منهم خمسة على أحد الحواجز.

أحدهم أخبر الجنود أنه ليس من سراقب ويريد فقط العودة لمنزله في القرية المجاورة، فطلبوا منه أن يستأذن القائد. دخل المكتب ليسأله، وخرج منه جثة هامدة.

مع حلول مساء الاثنين، خرج الجيش بعدما “طهّر” المدينة بحصيلة تجاوزت ٢٥ شهيداً. وبعدما ظنّ الأهالي أنّ الكابوس انتهى، استيقظوا في اليوم التالي ليجدوا الجيش يحاصر سراقب تماماً، وفي غضون الظهر، لم يعد أحد يستطيع المغادرة. حوصر الجميع في الداخل وسرعان ما بدأت الاشتباكات بين الجيشين النظامي والحر. لم يكن لدى الثوار ما يقاتلون به بعدما استُنزفوا لثلاثة أيام، ما تبقى كان بضعة ألغام أرضية والقليل القليل من الذخيرة، وعلموا بأنهم كانوا في طريقهم إلى الموت.

ما تلى كان مجزرة وحشية. كل من لم يستطع الزحف خارج المدينة والهرب، قُتل. كانت الجثث منتشرة على الأرض، نقلها عبدو مع بعض الشباب واحدة واحدة إلى غرفة منزل خوفاً من أن يسرقها الشبّيحة، وبعدما انتهوا شطفوا الشارع لإخفاء الدماء. في صباح اليوم التالي، كُوِّمت الجثث في شاحنة كانت تُستخدَم لنقل الفراريج ونُقلت إلى مقبرة الشهداء، ثم دفُنت في حفرة جماعية. بُعيد الانتهاء كان لون عبدو أحمر تماماً، سارع إلى التسلل خارج سراقب إذ كان معروفاً ومطلوباً. هرب والحزن يكاد يشلّه، كانوا شباباً في عمر الزهور. “كانوا المستقبل، وأنا دفنت المستقبل بيدي”.

بعد أيام، وُجد “محمد عبود”، أحد أجمل شباب المدينة، مقتولاً ومرمياً في مكب النفايات، كان مذبوحاً من رقبته وعلى جسده آثار تعذيب لا تنتهي وفي كتفه الأيمن طلق ناري. تساءل عبدو بدهشة: “من الذي يملك ما يكفي من الأعصاب ليعذب شاباً بهذه الطريقة؟”، لم يجرؤ أحد على الاقتراب إذ كان الدود يخرج من جروحه، وحده عبدو حمله وغسله وكفنه ودفنه، وبكى عليه.

روى عبدو أيضاً قصة القذيفة التي سقطت على آل بريك وهم يشربون الشاي أمام باب منزلهم، قُتل معظم أفراد العائلة وقُتلت إيلاف، الطفلة ذات الخمس سنوات. كانت جثتها بلا رأس، سارع إلى ضمها لإخفاء ما حدث، إذ كانت أمها تبكي خلفه وتصرخ طالبة رؤيتها. “قبلي قدميها” صرخ “لديك القدمان فقبليهما”. لفّ الطفلة بشرشف وأصرّ ألاّ تدفن مع البقية، ودفنها في قبر حُفِر لها وحدها. ابنة عمّها شيماء عمرها تسع سنوات فقدت أفراد أسرتها وساقيها معاً. “قبل الحادثة بوقت قليل، كنا نحتفل بمقتل أفراد خلية الأزمة”، يقول عبدو، كان يوزّع الحلويات ابتهاجاً وكانت إيلاف وشيماء ترقصان وتأكلان من يديه. قذيفة واحدة كانت كافية لتحوّل الحفلة مأتماً ولتترك على وجه سراقب ندباً أبدياً لا يمحى.

 عبدو لم يكن فقط حزيناً، كان غاضباً جداً. صرخ وهو يحدثني “يكفي، على شلال الدم هذا أن يتوقف”، طلب مني أن أخبر المعارضة وروسيا وإيران ومجلس الأمن والعالم أجمع بذلك، وأن أخبرهم أيضاً أن صورة الموت هنا ماثلة في عيون الناس، مطبوعة في أعماق روحهم ومحفورة في هواء المدينة. “يوماً ما سننتصر” ختم وهو يغتصب نصف ابتسامة “وسنحتفل معاً أنا وأنت هنا حيث دفن الموت”.

ولا يزال للحديث بقية..

يارا نصير – سراقب

لبنان الآن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى